قبل سقوط النظام وفي إطار الجهد الأمريكي لوضع خطط لإعادة تأهيل الإعلام العراقي ديمقراطيا بعد إسقاط النظام، عقدت العديد من الاجتماعات لوضع أفكار عن إستراتيجية جديدة للإعلام العراقي ومنها اجتماع في لندن عام 2001 وآخر في واشنطن.وفي عام 2002 عقد في أثينا اجتماع مهم نظمته المعارضة العراقية بالتعاون مع أطراف أمريكية وبريطانية، و حضرته شخصيات تمثل المعارضة العراقية،وضعت في هذا الاجتماع الخطوط العريضة للسياسة الإعلامية العراقية. وترك هذا الاجتماع آثاره بعد السقوط لان اغلب الذين حضروه احتفظوا بمواقع مهمة في التشكيلات الإعلامية اللاحقة. وانعكست تلك السياسة على ما أصدره بول بريمر من تعليمات منظمة للإعلام في القرارين 65 و66، وتشكلت هيئة الإعلام والاتصالات وشبكة الإعلام العراقي وهيئة للبث والإرسال.
هنالك اجتماعات أخرى عقدت بعد سقوط النظام منها اجتماع مهم عقد في أثينا أيضا 2003 وبإشراف شبكة انترنيوز وشاركت فيه 75 شخصية من 15 بلدا تحت عنوان: "من اجل إحداث نقلة نوعية في الإعلام العراقي، إطار عمل للتغيير وإستراتيجية للمرحلة الانتقالية" واقترحت هذه الورشة أربعة مسودات مشاريع هي: مشروع قانون للإعلام المؤقت، ميثاق شرف إعلامي، نموذج قانون خدمة البث العام،نموذج قانون مفوضية الإعلام المؤقت.
التطبيق الواقعي
أولا- تشهد الساحة الإعلامية فوضى عارمة خاصة في مجال المطبوعات وعمليات تنظيم ممارسة المهنة (العملية الوحيدة المستثناة من هذه الفوضى هي ضبط عمليات الإجازات الخاصة بالبث الإذاعي حيث تقوم هيئة الإعلام والاتصالات منذ سقوط النظام حتى الآن بمهمة منح التراخيص للبث الإذاعي وكان هذا الأمر من صلاحيات وزارة الإعلام المنحلة في السابق ).
ثانيا- مازالت هيئة الإعلام والاتصالات تمارس عملها وهي غير مرتبطة بالبرلمان (على خلاف ما نصت عليه المادة 100 من الدستور).
ثالثا مازالت شبكة الإعلام تمارس عملها ولم ترتبط بالبرلمان أيضا، مع العلم أن تمويلها يأتي من الحكومة.
رابعا: بعد التصديق على الدستور ونفاذ العمل به برزت مهمة جديدة حيث أشارت بعض مواده للحريات (المادة38) وأخرى أوصت بتشكيل هيئات مستقلة (المادة100) ومنها هيئة الإعلام والاتصالات وفهم من ذلك إصدار قوانين جديدة وهيئات مستقلة بديلة عن هيئات وقرارات بول بريمر.
الاتجاهات الجديدة لإصدار قوانين:
أولا: استعانت هيئة الإعلام والاتصالات ببعض المختصين لوضع مسودة قانون للإعلام والاتصالات تعرضه على البرلمان على أمل الإبقاء على الهيكلية الحالية للهيئة مع توسيع صلاحياتها. ان المادة 100 حين نصت على ارتباط "هيئة الإعلام والاتصالات بالبرلمان" يفهم من ذلك إنشاء هيئة جديدة.
ثانيا:استعانت شبكة الإعلام العراقي أيضا بخبراء ومختصين واقترحت على البرلمان مسودة قانون يحافظ على بنية الشبكة ويوسع من صلاحياتها. رفعت مسودة قانون شبكة الإعلام للبرلمان تحت تسمية "مشروع قانون هيئة الإعلام العراقي" وبما انها مسودة قانون فإنها تحتاج لوقت غير قصير لكي تناقش في البرلمان.
ثالثا: الهيئة والشبكة في حالة منافسة وكليهما اقترح الارتباط بالبرلمان مع الإبقاء عليهما وتوسيع صلاحياتهما وكلاهما حاول جمع مساندين لأفكارهما من أعضاء مجلس النواب. (فكرة الارتباط بالبرلمان وردت في الدستور لأن البرلمان رقيب على السلطة التنفيذية، ولكي يكون التمويل من المال العام مما يضمن استقلالية العمل الإعلامي)
رابعا: بادرت مجموعة من النواب والأكاديميين الإعلاميين والقانونيين وبالتعاون مع منظمة المادة 19 ومن خلال ورشتي عمل في عمان وبيروت هذا العام لاقتراح مسودة قانون لهيئة الإعلام والاتصال ترتبط بالبرلمان ويكون بديلا عن كل الهيئات الحالية وقد وجهت رسالة لبعض البرلمانيين لمساندته حيث تستوجب آلية عرض القوانين للمناقشة اعتماده من عشرة أعضاء أو اقتراحه عبر مجلس الوزراء وهذا القانون يضع الأطر العامة لتأسيس الهيئة التي تتولى رسم للسياسة الاتصالية وتنظيم الإعلام استنادا لقوانين لاحقة تنظم حقوق حرية التعبير.
خامسا: هنالك محاولات من جهات متعددة أبرزها من منظمات المجتمع المدني تقترح إصدار قانون موحد ينظم حريات التعبير والسياسات الإعلامية.
سادسا: بادرت نقابة الصحفيين العراقيين لاقتراح قانون للنقابة لم تعرضه على البرلمان والملاحظ انه تكرار لمفاهيم الأنظمة الشمولية (الحديث عن تمثيل شرعي ووحيد ورفض التعددية واقتراح قيود كثيرة). واقترحت نقابة صحفي كردستان قانون أفضل لكنه أيضا يقيد بعض الحريات و ينص على عقوبات. ذلك مع أن من كلا القانونين المقترحين اعتمدا على مصادر عالمية متعددة منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 19 خاصة، والحقوق المدنية والسياسية في العهد الدولي، ومؤتمر جوهانسبرغ، فضلا عن اخذ مبادئ مهمة وردت في أوامر بريمر 65 و66 مع الرجوع لمواد الدستور كمرجعية أساسية.
سابعا : هنالك محاولات حكومية لاقتراح قانون يجعل بمقدور الحكومة السيطرة على الإعلام وأيضا تحاول بعض الأحزاب المسيطرة على البرلمان اقتراح قوانين ذات صبغة أيديولوجية (تسعى مكاتب رئيس الوزراء لبلورة قانون ينظم الإعلام ويمنح السلطة التنفيذية حرية في ردع وسائل الإعلام وهنالك توجه برلماني مشابه يجري تحت ذريعة الأمن ومحاربة الإرهاب).
استنتاج
في ضوء هذه الاتجاهات والصراعات المختلفة يمكن أن نستنتج ما يأتي:
1. تبلور الحاجة والرغبة لوجود هيئة عليا لتنظيم العمل الإعلامي في العراق، وهذه الحاجة تؤكدها الحكومة ومجلس النواب والهيئات الإعلامية الحالية والمؤسسات الإعلامية وباقي أصحاب العلاقة. والدليل على ذلك بذل الجهود لغرض الخروج بقوانين تنظم الإعلام، بمشاركة واسعة لذوي الاختصاص.
2. لا توجد جهة مخولة بمفردها لاقتراح مسودة هذه القوانين، لكن هناك جهة لإصدارها كتشريعات، هي مجلس النواب كما نص الدستور. و المشكلة أن مجلس النواب لو قام بهذه المهمة بمفرده لخرج علينا بهيئات وقوانين مؤدلجة، بسبب هيمنة الأيديولوجيات عليه.
3. الملاحظ أن هناك اتجاه ليبرالي لوضع مبادئ وأسس هذه القوانين والهيئات، مصدره الأكاديميون والإعلاميون المحترفون، وهو يستمد أفكاره من المصادر العالمية المؤسسة للحريات والدفاع عنها، فضلا عما جاء من مبادئ إيجابية في أمري سلطة الإئتلاف المنحلة 65 و66. يقابل ذلك توجه شمولي تمثله النقابات الحالية، فضلا عن اتجاه مؤدلج مصدره الأحزاب وإعلاميوها. لكن جميع هذه الاتجاهات تحاول الاستناد إلى المادتين 38، و100.
4. هنالك حاجة لوجود هيئة عليا للإعلام والاتصال بديلة للهيئات الحالية، تنظم الإعلام استنادا لقوانين تخصصية.
• د. هاشم حسن: رئيس قسم الصحافة في جامعة بغداد، مشرف على مرصد الحريات الصحفية، مشارك في مسودة بعض هذه القوانين