هل إن الإعلام في أعلى درجات الحرية والاستقلال في أوربا, للحد الذي لا يخضع فيه لنوازع السلطة, ويبتت بمنأى عن أية أجندة حكومية؟.
من حيث المبدأ.. فإن حجم المهام السياسية المعاصرة التي تتناولها وسائل الإعلام التقليدية, من صحف وإذاعات وقنوات فضائية, ومنظومات الاتصال التفاعلي في المجتمعات اليوم, عززت من الطروحات التي تؤكد على إن: تلك الوسائل هي ليست إعلامية فقط, وإنما أدوات سياسية أيضا, ذات علاقة اثر وتأثر متبادل, تتمحور في تأثير الممارسة السياسية على مستوى الدولة في هذه الوسائل, وتأثيرها في هذه الممارسة في اللحظة ذاتها.. إن النظام السياسي الحاكم, في المجتمعات الحرة, يبقى بحاجة إلى توضيح اختياراته في صنع القرارات السياسية للجماهير, وشرح سياساته العامة, من اجل أن يحظى بمساندتها لتحقيق هذه الاختيارات, مثلما إن الجماهير بحاجة لإبلاغ ردة فعلها.
شبكة تواصل فرنسية
وفي أوربا.. فان وسائل الإعلام في المجتمعات المعاصرة - بالضرورة – محل الطرق الأخرى في عمليات الاتصال السياسي التي تعد إحدى الوظائف الرئيسة للدولة الحديثة, بل هي تربط الشبكات الموجودة ببعضها وتنقل منتجاتها باستمرار, وفي بلد مثل فرنسا, فان الفاعلية السياسية لوسائل الإعلام, غالبا ما تقررها الطريقة التي يقيًم بها الشعب مدى صدقية هذه الوسائل, وما إذا كانوا يعتقدون إنها ستخدم النظام السياسي أو تعيقه.. وكان من المعتاد أن تدعم الشركات ورجال الأعمال والأحزاب السياسية والحكومات الصحف, وعلى الرغم من ازدياد عدد السكان فقد شهد توزيع الصحف في فرنسا تراجعا منذ الحرب العالمية, وبحلول السبعينات كان التلفزيون قد حل محل وسائل الإعلام الأخرى كمصدر رئيس للإعلام السياسي, وبدرجة أعظم في فرنسا منه في ألمانيا أو بريطانيا أو حتى في الولايات المتحدة, ومع اقتراب انتخابات الرئاسة الفرنسية للعام 1988 كان 37% فقط ممن شملهم الاستطلاع للرأي يعتقدون انه يمكن للصحافة أن تؤثر على اختيارهم, مقابل 62% أعطوا هذا الدور للتلفزيون.
وتمتلك الآن جميع الأسر الفرنسية أجهزة راديو وتلفزيون, ويقضي 80% من المواطنين ثلاث ساعات أمام جهاز التلفزيون, وقد أشرت البرامج الخاصة بالأحداث السياسية الجارية زيادة كبيرة في معدلات البث في خلال السنوات الأخيرة, وفي الظروف الاعتيادية, أي حين لا تكون هناك انتخابات في الأفق أو أزمة سياسية, تشغل هذه البرامج حوالي ثلث ما تعرضه قنوات التلفزيون الفرنسي.
وقد أصبح التلفزيون الفرنسي الوسيط الرئيس بين القوى السياسية والمواطنين الأفراد, وكان له تأثيره على المنظمات السياسية من خلال:
- أصبحت الشخصية القادرة على تقديم أداء جيد في التلفزيون عاملا أساسيا في السياسة, وأصبحت الصورة والمشاهدة عوامل هامة في السياسة.
- ساعد التلفزيون على إعادة ترتيب القضايا السياسية, والاختيار من بين مجموعة كبيرة من المواضيع والمشاكل والقضايا التي تداولها بين القوى السياسية والاجتماعية, وإبرازها لجماهير المواطنين.
- أصبح التلفزيون الحلبة التي تدور داخلها الحملات الانتخابية الوطنية وحل بقدر كبير محل المهرجانات واللقاءات الجماهيرية الحاشدة.
اتصال محدود في بريطانيا
ويتطلب النموذج الليبرالي للسياسة الانكليزية تدفقا كبيرا من المعلومات بين الحاكمين والمحكومين, وانه كلما ازداد حجم المعلومات المقدمة عبر وسائل الإعلام, كلما كان معنى ذلك اطلاع أفضل للجمهور, وكانت السياسات أفضل, ففي هذا النموذج يكون من حق الجمهور أن يعرف, إلا إن نموذجا آخر (وايتهول) يعمل فيه ببريطانيا, يعتبر إن المعلومات السياسية سلعة نادرة, ويجب أن لا يتم تبادلها بحرية مطلقة, وتعد العلنية مكلفة لأنها قد تزعج المفاوضين الحكوميين مع مجموعات المصالح, على سبيل المثال.
وتمتلك هيئة الإذاعة البريطانية B.B.C شبكتين تلفزيونيتين, وأربع شبكات ومحطات إذاعية, فضلا عن محطات محلية في مختلف أنحاء المملكة المتحدة, وترخص لجنة التلفزيون المستقلة لأكثر من 12 شركة إقليمية, تشكل بمجملها شبكات تلفزيونية تجارية شعبية, بالإضافة إلى قناة للبرامج التلفزيون المتخصصة, وتعمل محطات الإذاعة التجارية المحلية تحت رعاية سلطة الإذاعة, ويعين مجلس إدارة الهيئة من قبل الحكومة القائمة, ولان المسؤولين عن الإذاعة لا يكونون واثقين بشان من سيكون في السلطة عند تجديد رخصهم فان لديهم توجها قويا بان لا ينحازوا إلى أي حزب.
ولا يتفق الإذاعيون في انكلترا, طبقا لجابريل إيه آلموند و جي. بنجهام باويل بخصوص الوقت الذي يجب تخصيصه لتغطية الأحداث السياسية, ووجهة نظر الإذاعة البريطانية التقليدية هي انه (موضوع مقدس), وترى إن القضايا العامة مهمة وان السياسيين يستحقون الاحترام, فيما يعتبر معظم مشاهدي التلفيزيون هناك إن هذه الوسيلة محايدة سياسيا, ولا يعتبر إن هيئة الإذاعة البريطانية متحيزة, سوى 26%, ولا يعتقد سوى 17% إن شركات التلفزيون المستقلة متحيزة, والأقلية التي تقول إنها متحيزة لا تتفق على تحديد الجهة التي تزعم إنها تفضله, حيث يرى نصفهم انه متحيز للمحافظين و النصف الآخر يرى انه متحيز للعمال.
وتؤكد العديد من تقاليد الحياة السياسية الانكليزية على ضرورة عدم تشجيع الاتصال السياسي عبر وسائل الإعلام, حيث انه غاليا ما يخفي السياسيون مداولاتهم بحجة المسؤولية الوزارية المشتركة, ويحدد قانون الأسرار الرسمية للعام 1911 بدقة ما يمكن للسياسيين والموظفين المدنيين أن يفشوه من مناقشات بموجب نموذج (وايتهول), فيما قلل تعديل القانون في العام 1989 من نطاق المعلومات السرية التي لا يمكن نشرها دون تصريح مسبًق على أمور مثل الأمن القومي والدفاع والعلاقات الدولية, وقد وجهت مؤخرا انتقادات إلى (وايتهول) لان عدم الاتصال بين الحاكمين والمحكومين عبر وسائل الإعلام, يعد عقبة سياسية, ومنها أن لا يعرف رئيس الوزراء البريطاني عن صعوبات ما تقع داخل إحدى وزاراته, إلى أن يطرح عليه سؤال محرج في مجلس العموم, كما إن عدم الخوض في مناقشات عامة مبنية على معلومات مسبقة لبحث بدائل سياسية واتخاذ قرار نهائي بشأنها قد يتمخض عنه اتخاذ الحكومة للقرار مع جهلها برد فعل شعبي.
تاريخ ألماني طويل
ولوسائل الإعلام تاريخ طويل في ألمانيا, فقد انطلقت أول صحيفة وأول خدمة تلفزيونية في العالم من ارض ألمانيا, ومع ذلك وفي معظم الأحيان فقد خضعت وسائل الإعلام في ظل نظم سابقة لرقابة السلطة السياسية أو لاحتكارها, وأظهرت القومية الاشتراكية مدى قوة الإعلام في التأهيل السياسي, وبعد الحرب العالمية مباشرة, ولأهمية وسائل الإعلام في الحياة السياسية العامة, لم تصرح قوات الحلفاء التي احتلت ألمانيا بممارسة الصحافة إلا للصحف والصحفيين الذين تأكدت من تحررهم من الارتباطات النازية, كما ضمن القانون الأساسي حرية الصحافة وغياب الرقابة, وتمخض عن هذا نتيجتان:
أ- جهود واعية لإيجاد تقاليد صحفية جديدة تلتزم بالقواعد الديمقراطية, وتكون هادفة ومحايدة سياسيا, وكان هذا الأسلوب الإعلامي الجديد بداية ابتعاد واضح عن الممارسات الماضية, كما ساهم في إعادة تشكيل الثقافة السياسية.
ب-النزعة الإقليمية لتوزيع الصحف, فالجمهورية الفيدرالية تفتقر إلى صحافة قومية عريقة مثل بريطانيا أو فرسا, وبدلا من ذلك فان لكل إقليم أو مدينة كبيرة صحيفة أو أكثر توزع بشكل أساسي في تلك المنطقة.
وتدير شبكات الإذاعة والتلفزيون اليوم مؤسسات عامة منظمة على مستوى الدولة الألمانية, وعلى الرغم من أعضاء هذه المؤسسات تعينهم حكومات الولايات المعنية, فان إن هناك اتفاقا على أن تبقى وسائل الإعلام متحررة من أية سيطرة حكومية, والمهمة الأساسية لوسائل الإعلام المعاصر هي تامين مصدر للمعلومات والاتصالات تربط النخبة السياسية بالشعب, وتلتزم شبكات التلفزيون بقوة بالبرامج السياسية, فحوالي ثلث البرامج مكرس للقضايا الاجتماعية والسياسية, قد أظهرت استطلاعات الرأي إن لدى الألمان رغبة كبيرة في اقتناء المعلومات السياسية التي تقدمها وسائل الإعلام, واظهر الاستطلاع إن 88% من الألمان يشاهدون البرامج الإخبارية والسياسية في التلفزيون غالبا, وان الصحف هي ثاني أكثر مصادر الأخبار السياسية شيوعا, إلا أن لوسائل الإعلام دور ضئيل في غرس المعتقدات الجديدة, باستثناء بعض الأحداث المثيرة مثل فتح جدار برلين, فهو من اختصاص: العائلة, والمدرسة, والأصدقاء.. حيث إن الألمان مستخدمون واعون لوسائل الإعلام, ومطلعون على مجريات الأحداث السياسية.
* تدريسي وباحث في شؤون
الإعلام والاتصال
مركز جامعة بغداد
ماجستير في مصادر المعلومات
Samouk_76@yahoo.com