حين لا يقرأ المواطن فإنه لن يشتري الصحف ويقذف بالصحافة الى احضان المال السياسي والحكومات. وحين تصير وسائل الاعلام عبدا لمن بيده المال والنفوذ، يقول المواطن انه يائس من "الميديا" التابعة للساسة وغير المستقلة.
من يريد ان يبقى مستقلا او حرا في تغطية ما يجري، فعليه ان يغلق ابواب مطبوعه بعد بضعة شهور من الاصدار. هذا ما يحصل حين تريد اصدار مطبوع حديث في بلد لاينتظم مجتمعه ولا اقتصاده ولا ساسته، بنظام حديث لتبادل السلع والخدمات، ومنها خدمة الإعلام الاكثر خطورة.
بحسبة بسيطة خلال دردشة بين صحفي وموزع، اكتشفنا ان نحو 20 مليون عراقي لا تباع الصحف في احيائهم السكنية. اسأل الموزع: لماذا لا تذهبون الى كل هذه الملايين، فيقول: انهم لايقرأون.
اسأل ثانية: هل جربت ان تقوم بإيصال الصحف الى الاحياء السكنية وفشلت؟ يقول: لا فائدة، الناس لا تقرأ. يتصل الناس ويشتكون من نفاد النسخ. انقل الكلام للموزع فيقول: عليهم ان يلحوا على وكلائنا، وحين يقتنع الوكيل سيقترح زيادة النسخ، ولعلنا نرفع كمية الطباعة. ارجع للناس قائلا: عليكم ان تلحوا بالطلب. فيسخرون مني: هل هي جريدتكم ام جريدتنا. نحن نريد بضاعة سهلة المنال، هل نتوسل للحصول على جريدة؟
هذه دائرة مغلقة مثل مديرية جوازات وكل موظف يقذف بك الى آخر بلا نهاية.
صحيح ان الاعلام المرئي سرق الاضواء من الصحافة المكتوبة، لكن ليس الى درجة ان 30 مليون عراقي لا يقرأون سوى بضعة آلاف نسخة من الصحف. هناك من يفتخر انه يبيع 10 آلاف ويقول متعاليا: انت لا تبيع سوى 4. لكن الرقمين خزي حقيقي.
حين كنت صغيرا، في آخر قضاء عراقي على الحدود، كنت اشتري الخبز والصحف من الكشك ذاته. شركة توزيع جيدة توصل المطبوعات التي تربينا على قراءتها. مجلة ألف باء، آفاق عربية، وفي نفس الوقت كنا نقرأ مجلتي والمزمار، واصدارات العصر الذهبي. اما اليوم فلا احد يعبأ بالضواحي التي يعيش فيها معظم العراقيين، ولا احد يوصل الصحف. احياء في قلب بغداد بلا صحف. المنطقة الخضراء بلا كشك جرائد. يسألني مقيمون هناك، كيف يمكن ان يحصلوا على الصحيفة؟
في النجف سألت بائع الصحف عن جريدتنا. قال: انها الاسرع نفادا، نبيعها بسرعة. كم نسخة تبيع؟ قال عشرين. عرضت عليه ان نقوم بزيادة الكمية كي نلبي الطلب المتزايد، لكنه رفض: كافي، 20 زايدة علينا. في محافظة مثل النجف لا تبيع الصحف الجيدة اكثر من 100 نسخة. وحتى حين يكون هناك طلب فإن اليأس يستبد بالبائع الى درجة انه يرفض اي زيادة.
يأس لدى الموزع والبائع، ويأس لدى القارئ، سيتحول الى يأس لدى الناشر والكاتب، وسيختفي الجميع ولن يبقى سوى الحزب وصحيفته، يصولان ويجولان، فهؤلاء لا يعرف اليأس طريقا الى قلوبهم، طالما كل الابواب مشرعة باسم ألف شعار وجيش وداعم اقليمي ودولي.
النتيجة ان الصحف لا تعيش من مبيعاتها فتراهن على اعلانات الحكومة. وقبل يومين قامت وزارة بشطب جريدة العالم من اعلاناتها لأننا نشرنا تقريرا يسلط الضوء على بعض مشاكلها.
الصحافة تحت رحمة قارئ لا يجد صحيفة قرب محل سكناه، وموزع يائس، وحكومة تمنع الاعلان عن صحف لا تسبح بحمدها. المعادلة تعكس حجم الخطر الذي يحدق بحرية التعبير.
لا يمكن ان تعمل نظام اشتراكات لأن البريد مشلول والتعاملات المصرفية متراجعة والوضع الامني يمنع خروج الصحف من بغداد قبل الفجر حيث تصل متأخرة لمدننا الاخرى. التراجع المريع للاقتصاد والامن والاجتماع، يمنع وصول "الحقيقة" الى الجمهور.
معظم وكلاء الاعلان مجموعة احتكارية تضطر للتحالف مع الوزارات، وحين تنتقد اداءهم يمنعون عنك الاعلان. الاعلان التجاري ليس بعيدا عن هذه اللعبة. وهذا يعني تخلفا آخر على مستوى العلاقة مع الطبقة السياسية ورجال الاعمال.
التراجع الخطير في هذه المستويات يريد ان يثبت، ان من شبه المستحيل ان تصمد وسائل اعلام حديثة وتجد القدرة على البقاء، وسط علاقات متخلفة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة. لن نسد فمك لكننا سنقطع الطريق على جريدتك.
النتيجة التي لا اريد تصديقها، هي ان المجتمع وقطاعات المال والاعمال، والطبقة السياسية، يساعدون على "إعدام" الصحافة المستقلة، وإجبار المشاريع ربع الناجحة، على ان تلجأ الى "التسول" من الساسة كي تبقى. وحين تتسول فإنها تصبح مثل جريدة الحزب، لا تقول شيئا، كسولة، خائفة. لا نحتاج لدكتاتور كي يمنع حرية التعبير، بل يمكن للعلاقات المتخلفة في جوانب الحياة العديدة، ان تصبح اخطر من الدكتاتور في منع ظهور الصحافة المحترفة والواثقة من نفسها.
القارئ الباحث عن كلمة مفيدة، ورجل الاعمال المحتاج لمطبوع حديث، والسياسي الذي يهمه وجود وسيلة اعلام تقف على مسافة واحدة من الجميع، كلهم يتحولون خلال لحظة التراجع المدني، الى وسيلة لقمع حرية التعبير ومنع ظهور الميديا الحديثة.
من هو الاكثر خطورة اذن، تخلفنا ام الدكتاتور؟