على هامش النتائج التي تخرج بها منظمات الرصد المحلية والعالمية بشأن حقوق الانسانفي العراق، ومنها حقه في التعبير، وكذلك تلك النتائج التي تبين أن العراق مازالالبلد الاخطر في العالم بالنسبة لعمل الصحفيين، يمكننا أن نلمس أن "حرية التعبير" مازالت تواجه الكثير من العقبات في العراق
في الواقع العملي، رغم الاجماع المتحقق عليها نظرياً. لا شك انحرية التعبير غير متعلقة، كمظهر أعلى، في كثرة الصحف والقنوات الاعلامية، الفضائيةوغيرها، بقدر ما تتعلق بقدرتها، هذه الوسائل، على استيعاب التنوع، وعلى نقل وترشيقالخلافات المقبلة من السجال الاجتماعي والسياسي والثقافي، من فضاء العنف المادي،الى تجاور الخطابات، ومن اسكات الخصم بالسلاح الى الجدال معه، والانتقال من أحاديةالممارسة التي تستقوي بالقوة المادية، الى تنوع هذه الممارسة بتحييد هذهالقوة.
والحال أن هذه الصورة مازالت بعيدة المنال في عراق اليوم، وناتج الخمسالسنوات الماضية يعطينا أكثر من دليل على عدم القدرة على قبول المختلف، وعلى هيمنةالاساليب التقليدية في افحام الخصم وإسكات صوته. حيث انتقلت الممارسة الحصرية للعنفالتي كان يقوم بها النظام السياسي تجاه المجتمع الى المجتمع نفسه، فغدت القوىالاجتماعية المتعددة التي تفرض سطوتها بالعنف صاحبة الدور الاساسي في التطبيقالمشوه لفرضية التخلي عن الدولة المركزية، التي تحولت الى بعبع كبير يرجمه الجميع،حتى تساوى لدى بعض العامة حضور الدولة الشمولي، والطبيعي، بذكرى السطوة الاجراميةلنظام البعث المباد، والحال ان العنوانين مختلفان، ولكنهما اختلطا عند الكثيرينفاصبح المتضرر من هيمنة القوى الاجتماعية الجديدة على الشارع العراقي يترحم علىالسطوة الديكتاتورية للدولة الشمولية السابقة.
إزدواجية التعبير عن الرأي
من المفارقات المؤلمة أن الكثير منالمثقفين مازالوا يعانون من الازدواجية التي حكمت سلوكهم الثقافي في زمن النظامالسابق، لا حباً في هذه الازدواجية، وإنما لأن الواقع الجديد أعاد إنتاجها بأشكالجديدة ولكنها تحمل التأثير ذاته. فهناك، في اللقاءات التي تجري دائماً بينهم، فيأروقة الصحف التي يعملون فيها، أو في المقاهي أو الأماكن العامة القليلة التي بقيتمفتوحة أمام نشاطاتهم، يتحدثون بأشياء لا يستطيعون الكتابة عنها، فظل الكلاممفصولاً بمسافة اجتماعية عن الكتابة، هذه المسافة المملوءة بالخوف من التصفيةالجسدية من هذا الطرف أو ذاك. انتفى المحرّم السياسي، بدرجة أو بأخرى، ولكن مساحةالمحرّم الاجتماعي اتسعت، وانقلبت المعادلة، فغدا المجتمع أقوى من الدولة، وغداالأفق المعرفي الذي يتحرك تحته هذا المجتمع أعلى سقفاً من الأفق المعرفي والنظريالمفترض للدولة كنظام وثقافة سياسية وقانونية. ولأن المجتمع مازال يعاني من هيمنةالتخلف في كل مرافقه السياسية والثقافية، فأنه غدا الضاغط الاكبر (بتخلفه) على شكلالدولة ومحتواها، فانتقل التشرذم الاجتماعي لقوى ما قبل الدولة الى واجهة الصياغةالسياسية لنظام الدولة، الذي يفترض به ان يكون ذا صبغة تجريدية عامة، لا تعكس ثقافةفئة محددة. واصبحت مهمة انتاج دولة جديدة عرضة لتناهب فئات ما تنفك تنقسم علىذاتها، بدل ان تتوحد في صيغة "مصنوعة" من المشترك العام لدى الجميع. ولعل صعوبةادراك هذا المشترك العام والتأسيس عليه آتٍ من غياب الدور التقليدي للنخب، التيتنفصل في وعيها السياسي والثقافي عن الثقافة المجتمعية العامة بمسافة نقدية، تتيحلها القدرة على ترسّم خطوط التطور الستراتيجي للفعاليات التاريخية للمجتمع.
هذاالكلام لا يقصد الايحاء بوضع الثقافي فوق السياسي، في ثنائية تراتبية بسيطة، ترضينرجسية المثقف (الذي هو بحد ذاته مشكلة كبيرة)، فحتى هذا الدور المفترض المقبل منفوقية الثقافي على السياسي، هو أمر لا يمكن تحقيقه على الارض. وبالعودة الى موضوعةحرية التعبير، فأننا نرى أن السياسي قادر على توجيه الاتهامات لخصمه بأبشع الاوصاف،من دون ان يتعرض لأي مكروه، وذلك عائد أولاً الى كون الحلبة السياسية مدججة علىالدوام بالحماية الامنية الخاصة، وثانياً لأن شروط اللعب في هذه الحلبة تتيحالالتفاف المستقبلي من صف العدو الى الصديق او بالعكس، لذا لا يلجأ الجميع الىمرحلة تكسير العظام، وانما اللعب في حدود حافة الهاوية. ثم أن "حرية التعبير" التييمارسها السياسي غير مجانية، فهي تستهدف حسابات لزيادة رصيد وترويج اجندة خاصة. وهيلذلك مرتبطة بحاجات راهنة، لا علاقة لها بنقد الاصول او المرجعيات الثقافية أومحاولة الترويج المجاني لفاعلية النقد. أنها تمارس نقداً منضبطاً بشروط الحلبةالسياسية، وهو نقد غير متعال، بالامكان التخلي عنه، او تحويل دفته فجأة باتجاهمغاير.
يظهر السياسي العراقي على شاشات الفضائيات العراقية والعربية ويشتم خصمهاو ينقد ممارساته، ويرد الخصم، ويستمتع المشاهدون بفضاء الحرية الذي جعلهم يرونالساسة العراقيين ينشرون غسيل بعضهم البعض. ثم يحوّل المشاهد القناة التلفزيونيةالى أخرى، ويخرج السياسي من الاستوديو مدججاً بحمايته الى "ملاذه الآمن". ولايمكننا الاعتراض على متطلبات الحماية للسياسيين وسط ثقافة سياسية اعتادت علىالتصفية الجسدية كجزء من أدوات العمل السياسي، منذ أن تأسست شرعة السياسة في بلادناوحتى الآن. ولكن هذه الصورة توضح لنا أبعاد المفارقة التي تشمل "حرية التعبير"، حينيطالب المثقف بأن يتفوه ـ في الأقل ـ بالكلمات نفسها التي يتحدث بها السياسي، ثميُطرَحُ بعدها الى العراء، لحمة طرية لأفواه العنف المتناسل.
هذا مع إن الكلاميدور اصلاً حول الدور النقدي للمثقف، الذي يعبر بالضرورة الى مسافة ابعد من السجالالسياسي الآني، للحفر في الأصول الثقافية للممارسة السياسية، وتفكيك المرجعياتالاجتماعية للعنف المؤسسة لإلغاء الآخر، وأسباب غياب المجتمع المدني وغيرها منالقضايا. وهي قضايا غالباً ما يتحدث حولها المثقف العراقي بعمومية ولا يستطيعالهبوط
بها الى ارض التطبيقات والتجسدات العملية.
حرية التثقيف العام
أنالقوى الاجتماعية التي انبثقت عقب سقوط النظام الديكتاتوري تمارس الآن، من خلالمظاهر التنظيم السياسي وأشكال التنظيم الأخرى، عملية تثقيف حرة، وهي قادرة علىالدفاع عن فرضية "حرية التعبير" في العراق الجديد، ولكنها لا تتحدث ابداً عنالآليات المتعددة التي تعتمدها لتكميم الأفواه، خصوصاً وان هذه القوى هي التي تحتكرالعنف، وتمنحه شرعية الحضور في الممارسة الاجتماعية، على الضد من فرضية احتكارالدولة للعنف، باعتبار الدولة أطاراً عاماً لا يملك هوية محددة، ويحتضن الفعالياتالاجتماعية ويحميها، على تنوعها وتناقضها، بقوة القانون.
ومن الملفت أن خمسسنوات من (الحرية) لم تنتج لنا مثقفاً مندمجاً مع الفعالية الاجتماعية حتى الآن،فهو بالإضافة الى ممارسته للنقد التجريدي العمومي، الذي لا يفهمه الجميع، أو يفهممراميه الصريحة مجتمع المثقفين فقط، انسحب الى صورتين من الحضور الثقافي، الأولى هيالكتابة بالأسماء المستعارة في الصحف الالكترونية على شبكة الانترنت، والثانية، هيالكتابة ـ والصراخ احياناً!ـ من وراء الحدود، في تكرار للكوميديا السوداء التي طبعت "حرية التعبير" للمثقفين في زمن النظام السابق. وهو يصرخ من هناك ليس احتجاجاً ضدالدولة [فهي غائبة أو ضعيفة ومسكينة في افضل الاحوال] وانما ضد بعض القوىالاجتماعية المسيطرة على المشهد العراقي.
وهناك حرج قادم من ان العديد من الصحفالعراقية، غير قادرة على فتح مساحة على صفحاتها لآراء تعبر عن وظيفة النقد الجذري،ولدينا امثلة كثيرة، على وضع تجد الصحيفة فيه نفسها امام تهديد جهة ما بسبب رأينشرته. الامر الذي يدفع الكثير من المطبوعات التي تطمح للاستمرار بأقل خسائر (بشرية!) ممكنة، الى اعتماد "التقية" في عملها، والى مسايرة الثقافة الاجتماعيةالعامة.
إن التثقيف الذي تمارسه قوى مختلفة في الفضاء العراقي الحالي يبدومدعوماً بشرعية تمثيل هذا الخطاب الثقافي لشريحة اجتماعية محددة، يعبر عن تطلعاتهاوعن رؤيتها لمجريات الامور، بغض النظر عن سلامة هذا التمثيل، وعن التباس التعبير عنهذه الشريحة الاجتماعية مع القمع الداخلي لها، وإخصائها ثقافياً.
ولكن، ما هيالشريحة الاجتماعية التي يمكن ان يعبر عنها المثقف المستقل صاحب المشروع النقدي؟وكيف يمكن ان يتدرع هذا المثقف بصورته الحالية الحرجة بقوى اجتماعية ما، من أجلحماية حقه في التثقيف ونقد الآخر في خطابه، ومزاحمته على فضاء التأثيرالمفترض؟
واقع الحال يؤكد عزلة المثقف بالصورة التي وصفناه بها، وضآلة المساحةالمفترضة والمتاحة أمامه من حرية التعبير، مادامت الدولة بعنوانها العام غير قادرةعلى حماية اختلافه، وتتعامل مع خطابه باعتباره فائضاً عن الحاجة، ومادامت القوىالصانعة للدولة، لا تفكر بالصيغة التجريدية للدولة التي يتحدث عنها المثقف، ولاتريد الإنصات لها، أو الاعتراف بوجودها.