في سابقة خطيرة أقدمت قوة من الجيش العراقي بأوامر من جهات عليا في صباح يوم الثلاثاء على أقتحام مبنى تابع لجريدة (المدى) في بغداد،وصادر أفراد القوة كتبا ووثائق وكراريس قديمة من المبنى،بعد أن سمح لهم حمايته بالدخول على أثر تهديد باقتحامه بالقوة والاستيلاء عليه، وليست هذه المرة الأولى التي تجري فيها مثل هذه المداهمات،فقد أقدمت قوات أمريكية – عراقية مشتركة قبل أسبوع على أجراء تفتيش في بنايات مؤسسة المدى للأعلام والثقافة والفنون في العاصمة بغداد وتصوير جوانب من دوائر الجريدة وممتلكاتها،وأخذ نماذج من كراريس قديمة كانت محفوظة في أحدى بناياتها.
وهذه التصرفات الخطيرة إزاء مؤسسة معروفة لها مكانتها في عالم النشر والأعلام،ولها شهرتها بين المؤسسات الثقافية الوطنية في المصداقية والأمانة والنزاهة والجرأة في الطرح واتخاذ المواقف يعطي أشارة خطيرة عن التردي الذي وصلت إليه الأمور في مجال الحريات الصحفية،وحرية الرأي،ويعطي انطباعا سيئا عن التوجهات المستقبلية الخطيرة لجهات لا تؤمن بالحرية والديمقراطية،فهذه المؤسسة العريقة ذات الحضور الفاعل في المشهد الثقافي العراقي،لم تكن في يوم من الأيام أداة للتطبيل والتزمير لهذه الجهة أو تلك،أو منبر للفكر الإرهابي ودعاواه للقتل،بل كانت من المؤسسات الوطنية التي أعطت صورة صادقة لما يجب أن يكون عليه الأعلام الملتزم في معالجة الأحداث،وكشف الحقائق،وكان لها دورها الثقافي والإنساني المتميز الذي تفتقر إليه المؤسسات الرسمية لما تمثله من انحياز وبيروقراطية عقيمة،فقد دأبت هذه المؤسسة على طباعة الكتب الثقافية والأدبية والفكرية ذات النهج التقدمي الواضح،وتوزيعها مجانا على القراء لإشاعة الثقافة الوطنية،وأقامت الأسابيع الثقافية التي تضم نخبة المفكرين وأعمدة الثقافة والأعلام في العراق،وساهمت في دعم وإعانة المثقفين بمختلف توجهاتهم الفكرية،وتخصيص رواتب شهرية لهم في سابقة غير مألوفة في العراق،واستفاد من هذا المشروع الإنساني مئات الأدباء والشعراء والكتاب والفنانين والصحفيين،في الوقت الذي تناست مؤسسات الدولة الثقافية الرسمية هؤلاء وتعاملت معهم بالإهمال والتهميش،وأقدمت على تقريب وإفادة البعض ممن لا يشكلون شيئا في الساحة الثقافية،وأهملت رادة الثقافة وأساتذة الجيل.
ويبدوا أن الدور الطليعي الذي تقوم به هذه المؤسسة لا يخدم توجهات بعض الأطراف التي تحاول القضاء على الومضات الحية للثقافة العراقية،وتسعى لسيادة الجهل والتخلف في الأوساط الشعبية،وتحجيم دور المثقفين في بناء المجتمع،فكان لها أن اندفعت باتجاه خطير لمحاربة هذا التوجه النبيل،والوقوف بوجه الساعين للبناء الثقافي على أسس وطنية بعيدة عن الدعاوى البغيضة السائدة هذه الأيام.
أن المتابع لخطوات المدى على مختلف الصعد،وفي جميع المجالات،يلمس الجهد الرائع الذي تضطلع به هذه المؤسسة العريقة،في البناء الوطني لأسس ثقافية جديدة ذات مضامين حرة تستند لأخر التطورات الحديثة في الثقافة العالمية،وترسي دعائم متينة لدور المؤسسات الثقافية والإعلامية الحرة في تعاملها مع المتغيرات الجديدة،لإنشاء أرضية صلبة للبناء الثقافي الأصيل،بعيدا عن هيمنة الدولة وثقافتها الاستبدادية التي تحاول تسخير الإعلام والثقافة لما يخدم توجهاتها السياسية،ونزعتها في الهيمنة والتحكم بالآخرين،لما لها من التأثير الفعال في توجهات الرأي العام،وتطلعاته في مناحي الحياة.
أن أحرار العالم ومثقفيه مدعوون للوقوف بحزم إزاء هذه الظواهر المدانة،والتوجهات الخطيرة التي تنتهجها الدولة العراقية في التضييق على الحريات ومصادرة الرأي،وتهميش المثقفين،ومحاربة الفكر التقدمي الساعي لبناء الإنسان العراقي بما يخدم التوجهات الوطنية،والقيام بحملة عالمية لإيقاف التجاوزات والانتهاكات المتكررة بحق الإعلاميين والصحفيين ورجال الكلمة المقاتلة الباحثين وراء الحقيقة مهما كانت المصاعب والتضحيات.
محمد علي محي الدين