بقلم انطوني بوردن
الأمل سلعة نادرة في العراق، وقد باتت أندر منذ الأسبوع الماضي عندما وقع عمار الشانبدر، وهو أحد القلائل الحالمين بالوطن، ضحية عمل آخر من أعمال العنف العبثية.
ولد عمار في العراق في العام ١٩٧٣، لعائلة معارضة لنظام صدام حسين اضطرت لمغادرة العراق إلى إيران ومن ثم إلى سوريا حتى استقرت في السويد.
في العام ٢٠٠٢ كان عمار يدرس علم الاجتماع في جامعة ويستمنستر في لندن، ويجيد أربع لغات، وكان ودائرته من الاصدقاء يتقاسمان حلما.. ومع الغزو الأميركي في العام التالي، توقع هؤلاء الطلبة الشباب عراقاً جديداً، توحده رؤية مشتركة نحو الديمقراطية وغير منشق على أساس طائفي أو عرقي أو بسبب الفساد. لقد كان حلماً، أمِلَ عمار وأصدقاؤه أن تتحول إلى واقع ملموس.
بعد بضعة أشهر من سقوط نظام صدام، التقيت عمار لأول مرة، وكان ذلك في بهو فندق فلسطين في بغداد الواقع على ضفاف نهر دجلة. كنت مع زميلي دنكن فيوري في إطار التحضير لتأسيس فريق عمل لصالح المنظمة الخيرية البريطانية التي نعمل فيها.
المنطمة اسمها معهد صحافة الحرب والسلام (IWPR)، وهي تعمل في مجال تطوير وتعزيز الصحافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني في البلدان التي تمر بأزمات. وكان واضحاً أن هناك الكثير الذي يتعين القيام به في العراق.
بدا عمار كطفل وهو يرتدي قميصا ابيض وسروال جينز، وسرعان ما لاحظنا ابتسامته الواثقة والجذابة ترحب وتحتضن جميع من كان يلتقيهم.
كنا نرتشف الشاي في بهو الفندق ونناقش الحيرة التي أصابتنا من المجتمع العراقي، وكنا نعجب لقدرة هذا الشاب على العمل في هذا المكان. فعمار يعرف الجميع، والجميع يعرف عمار. لقد وجدنا رجلنا، وكنا نعرف أننا يجب التعاقد معه على الفور.
بعد أن أسس فعليا مكتب بغداد لصالح مؤسسة العراق، انضم عمار إلى معهد صحافة الحرب والسلام وانكب على تأسيس فريق العمل التابع له والذي بلغ ذروته عند 150 موظفا محليا، مع عمار نفسه رئيسا للبعثة.
طيلة مدة عمله في المعهد، فإن البرامج التي طورها تميزت بالكثير من الإبداع، على سبيل المثال كانت هناك برامج تلفزيونية تفتح آفاقا جديدة في مجال حقوق الإنسان،وأخرى إذاعية خاصة بالمرأة، كما أسس وكالة الإعلان تديرها مجموعة من النساء، وانتج مواد إعلامية تشجع الناس على الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، إضافة إلى إطلاق مبادرة كبرى بشـأن التشريعات الخاصة بالاعلام وحرية التعبير والإصلاحات القانونية. وبطبيعة الحال، تدريب عدد لا يحصى من الصحافيين والإعلاميين وناشطي المجتمع المدني.
ولا نبالغ إذا قلنا ان ذلك كان له تأثير على جيل كامل من الصحافيين والإعلاميين في البلاد، وهذا من شأنه أن يجعل عمار من أصحاب الإنجازات البارزة وفي أي بلد كان، ناهيك عن العراق.
الهدوء الذي تلى الغزو لم يدم طويلا، وغرقت البلاد في عقد من الصراع الداخلي الرهيب الذي خلف مئات الآلاف من القتلى ودمار هائل، وفساد على نطاق واسع، ومزيد من عمليات النزوح والتهجير. وأخيرا، أزمة شرعية الحكومة، ثم ظهور الدولة الإسلامية.
المتفائلون كانوا قليلين، واستطاع عمار تحمل كل ذلك، وكان يسافر باستمرار في جميع أنحاء البلاد؛ يوم في الشمال الكردي، وآخر في غرب العراق او الجنوب، ثم مرة أخرى في العاصمة.
ومع تصاعد أعمال العنف في بغداد، انسحبت العديد من المنظمات غير الحكومية الدولية إلى المنطقة الكردية. لكن عمار مع فريق الموهوبين والمتفانين استطاع الحفاظ على سير العمل في إدارة مشاريع معقدة واستمر في لقاءاته مع المسؤولين وقادة المجتمع المدني والصحافيين والمحررين وغيرهم، إضافة إلى كتابة التقارير ومقترحات المشاريع التي لا نهاية لها، وكان دائما مستعداً لتقديم المعلومات والمشورة لمن يطلبها.
لقد عملت مع العديد من الزملاء في مناطق الحروب، والتوترات أمر لا مفر منه ولم يكن عمار في مأمن منها، لكننا غالبا ما شعرنا أنه فقط في هذا النوع من البيئة يمكنه سرقة الحرية التي كان يشتهيها. وخلال كل ذلك استطاع الحفاظ على سلوكه الإيجابي وعلى ابتسامته الساحرة والماكرة في بعض الأحيان.
كان يطور خبرة هائلة وفكراً،وكان الكثير من الوزراء والسفراء والصحافيين والأكاديميين يكنون له احتراماً كبيراً، وكانت كلماته الإعلامية دائما غنية بالمعلومات والإلهام. غالباً ما حضرته في لقاءات ونقاشات وكانت رؤيته بشأن التحديات التي يواجهها العراق أو فرص نجاحه مذهلة.
حدث وأن قضى القائم بإعمال السفارة الأميركية في العراق روبرت فورد عدة ساعات مع عمار وعدد من المتدربين، ليستمع عن العمل في المعهد ومناقشة التطورات في العراق، وبينما كانوا يغاردون قال السفير فورد إلى زميلته وزارة الخارجية فيتسا ديل بيرتيه "هذا أفضل يوم لي في العراق" وهكذا كان أثر عمار على كثير من الناس.
من دون شك، فإن الحلم الأول تلاشى، والرؤية في تحقيق تقدم سريع بقيادة أحمد الجلبي لم تتحقق أبدا. وسرعان ما انتشرت القيادة السيئة والقرارات الضعيفة بين الأمريكيين والعراقيين على حد سواء، ولم يخفت العنف أبدا، وكثر الموت.
ثلاثة صحافيين عملوا مع المعهد فقدوا حياتهم في المدة الماضية، من بينهم سحر الحيدري، التي اغتيلت في الموصل لكتابتها عن مخاطر التطرف الإسلامي هناك.
وعندمت نصل لنتحدث عن زميلنا الحبيب وصديقنا عمار، فإنه في الحقيقة كان في بعض الأحيان يدفعنا إلى الجنون، إذ لم تكن المواعيد النهائية تعني له شيئا. وكان يختفي لأيام متتالية عدة ثم يعود ليظهر ويقول إنه كان عرضة لعاصفة رملية أدت إلى انقطاع الاتصالات..
ومع هذا فإن حكمه على الناس، أو السياسيين أو العراق لم يخطئ، ولم يكن ليخذل أحداً في نهاية المطاف.
في وقت ما قبل بضع سنوات، أغري بفكرة الترشح للمناصب السياسية. كان يمكن أن يفهم ذلك على أنه تطور طبيعي لتجربة عمار، ولكن بعد الكثير من البحث في الذات، رفض القفز الى السياسة لأنها ستحد من قدرته على المشاركة وستقيد روحه الحرة.
على الرغم من أن أسرته كانت آخذة في النمو، فإنه كان عازماً على البقاء في العراق، ولم يكن ذلك قراراً سهلاً، خصوصا لزوجته، أنجيلا. حاولا نقل مقر إقامتهما الى بغداد، لكن الأمر لم ينجح، وأخذ يسافر بانتظام إلى لندن في نهاية العام الماضي احتفل عمار وأنجيلا بولادة طفلهما الرابع منذاك كان يمضي وقتا طويلا جدا كل يوم لحديث معهم عن طريق سكايب.
في النهاية، بقي عمار مع المعهد يعمل على الأرض، وفي عين المكان لأنه على الرغم من كل شيء لم يفقد حلمه في تحقيق العراق الذي يتمناه.
كان عمار يؤمن بقوة في العمل على المستوى الجماهيري لإحداث التغيير الاجتماعي والسياسي. وانطلاقاً من اختصاصه في علم الاجتماع كان يفكر باستمرار بكيفية أن يكون العراق محبوكاً معا، وكيفية أن تتمكن المجموعات المختلفة من الالتقاء عبر خطوط فاصلة، وقبل كل شيء كيفية تشجيع المرأة والشباب على المشاركة.
لقد ساعد في الإبقاء على شعلة الأمل والتمكين لدى عدد لا يحصى من العراقيين، وخصوصاً الشباب.
وفي الآونة الأخيرة، استحوذت عليه المنحة التي ألمّت بالأقلية اليزيدية على يد الدولة الإسلامية (بما في ذلك قصص مروعة من سوء المعاملة النساء)، وكان يعمل جاهداً على حشد الدعم العراقي والدولي لمساعدتهم.
كنا نحثه على توخي الحذر، وكان لديه خزانة مليئة بالسترات الواقية من الرصاص ومعدات السلامة الأخرى. وكان والده الذي يعيش في بغداد وزوجته أيضا يتوسلان به للحد من تحركاته. لكن عمار كان ذكيا ولديه اتصالات واسعة وعرف كيفية التعامل مع الوضع، كما كان يفعل دائما.
ومن هذا المنطلق لم يرفض عمار دعوة بعد ظهر يوم السبت ٢ أيار لحضور حفلة موسيقية في بغداد، وبطبيعة الحال، فإنه رأى انها ستكون فرصة للمرح رؤية الأصدقاء. وظهر في إحدى الصور الأخيرة له وهو يبتسم بين الجمهور، وأنا أعلم أنه يفكر في أكثر من مجرد اللحظة. لأنه كان يعتقد أنه إذا لم يكن العراق قادرا على عزف الموسيقى، فإنه لا يمكن له أن يمضي قدما. وإذا لم يكن هو على استعداد للحضور، فمن سيفعل ذلك؟ عمار، وكما هي طبيعته لم يكن إلا ليحضر الحفل.
بعد تناول وجبة عشاء ممتعة مع الأصدقاء في مطعم قريب، كان يسير في الشارع، وحدث الأنفجار وقتل على الفور. ويشير التشريح الى احتمال أن تكون الوفاة حدثت بسبب شظية صغيرة استقرت في قلبه، أو ربما من الضربة الارتدادية للانفجار، الذي قتل فيه ستة عشر شخصا آخرين وأصيب العشرات من بينهم زميل آخر من IWPR.
ردة فعل أصدقائه سواء كانوا في العراق أو أربيل أو لندن أو مالمو-السويد، أو واشنطن أو نيويورك وخارجها كان هو نفسه: "لا ليس عمار."
كان عمار دائما هناك، ودائما سيكون.. الناجي العظيم، الشاب الحكيم، والحذق والموالي. لم يمكن لأحد أن يصدق ما حدث. مجموعته الضيقة من الأصدقاء العراقيين من لندن أصيبت بصدمة كبيرة، لا تزال لديها صعوبة في قبول حقيقة فقدانه.
وتقول انجيلا زوجة عمار وهي تتألم "كان عمار مميزا جدا"، لكنها تعود لتستدرك بالقول "لكن في العراق لا تُميزُ حياة أحد".
قد لا يكون هذا صحيحاً كلياً، لكن من الصعب أن تقدر حقاً قيمة ما لديك حتى أن تفقده.
بعد يوم من مقتله كان اليوم العالمي لحرية الصحافة. وبالنسبة للعديد من الأصدقاء وأنا من بينهم، فإن يوم 3 أيار لن يكون بعد الآن يوما للاحتفال بل للتذكار.
تم تأخير جنازة عمار في اليوم التالي بحيث تتمكن أنجيلا، مع والديها وجميع الأطفال، من المجيء من لندن. أقيم الحداد الرسمي في بغداد، وشهد حضورا هائلا من كبار السياسيين والشخصيات الدينية والصحافيين والناشطين. إذ توافد مئات من الناس، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وكانت هناك تغطية واسعة من قبل وسائل الإعلام العراقية التي فعل عمار الكثير لمساعدتها وتطويرها، وكان الجميع يقول فيه "الأخ"، و"البطل" و "الوطني"، و"روح العراق النقية".
كعراقي وري جثمان عمار الثرى في مقبرة وادي السلام، في مدينة النجف، وأصدقاؤه الذين شاهدوا جثمانه رووا أنه كان مبتسماً.
في أسوأ ظروف يمكن تخيلها، قدم عمار الأمل. فهل سيتم إخماد هذا الأمل؟ أم هل أن رحيله سيلهم الحالمين الآخرين؟
عن الكاتب: أنتوني بوردين هو المدير التنفيذي لمعهد صحافة الحرب والسلام ، وهي منظمة دولية غير هادفة للربح تعمل على تشجيع الصحافة المستقلة والإعلام والمجتمع المدني في مناطق النزاعات والأزمات في جميع أنحاء العالم.