م.م. محمد وليد صالح
باحث إعلامي - جامعة بغداد
انعكست التطورات التقنية المتسارعة على المضامين الاتصالية التي تحملها وسائل الاتصال الجماهيري، فلا يخفى على المتابع للمشهد الإعلامي المعاصر ثورة الاتصالات الفضائية باستخدام الأقمار الصناعية في إيصال المعلومات والبث التلفازي المباشر الى المستخدمين من دون الحاجة الى المحطات الأرضية.
لقد وضعت تلك التطورات تحديات مباشرة تكمن بضرورة الإفادة من ممكنات هذا التطور بالشكل الذي يدعم عمل تلك الوسائل في تقديم الخدمة الإخبارية للجمهور، من خلال التغطية الإخبارية توفرها بوصفها الأساليب التحريرية والمتابعة الفنية لحدث ما وتحويله إلى خبر أو تقرير إخباري.
ففي عصر المعلومات الذي يشير الى تلك التطورات السريعة في إنتاج وتداول المعلومات بالاعتماد على الأقمار الصناعية واحدة من ابرز سمات العمل التي تتمتع بها تلك الوسائل، ولاسيما عبر شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) إذ تمثل انعكاس آخر للتطورات التقنية في الاتصالات.
ويمثل البحث محاولة للتعرف على انعكاسات التطور التقني في وسائل الاتصال على القيم الإخبارية، ثم ماهية تلك القيم في العالمين المتقدم والثالث من خلال مقاربة أولية بغية تقديم صورة موجزة للقارئ حول الموضوع.
تقانة وسائل الإعلام
· تقانة الصحافة: بدأت الصحف تتنافس في ما بينها للوصول والانتشار بأكبر مساحة ممكنة في العالم، مستفيدة من الإمكانيات التقنية التي ساعدتها على أن تكون لها أكثر من طبعة وفي أكثر من عاصمة ومدينة خارج حدود دولة مركز الإصدار، وذلك بالإفادة من الأقمار الاصطناعية والتقنية الرقمية التي ترسل بواسطتها صفحات الصحيفة والصور لتطبع في أكثر من مكان في العالم، فضلا عن توزيعها في وقت واحد أو في أوقات متقاربة وهو ما يسمى بـ(الطبعة الدولية)، أو الاعتماد على مواقع الكترونية خاصة بتلك الصحف سواء أكانت إخبارية سياسية أم اقتصادية أم رياضية، تحمل أسم الصحيفة على شبكة الانترنت وتحدّث معلوماتها أولاً بأول وفقاً للمتغيرات التي تطرأ على الحدث، لتمكين القارئ في أي مكان من العالم أن يطلع على صحيفته من خلال بث جميع صفحات الصحيفة شكلاً ومضموناً، وغالباً ما ترى هذه المعلومات معززة بصور الحدث ذاته.
· تقانة الإذاعة:إذ شهدت تطورات تقنية واضحة تمثلت في مغادرة معظم الإذاعات لمحطات البث الأرضية إلى البث عبر الأقمار الاصطناعية، بغية تأمين إرسالها والوصول الى ابعد مسافة ممكنة في العالم، وكذلك تخصيص مواقع لها على شبكة الانترنت.
ومما ساهم في زيادة فاعلية هذه الوسيلة الاتصالية التي أصبح باستطاعتها أن تتابع وتغطي الأحداث لحظة وقوعها وتوفر بثاً إذاعياً بعيداً عن محاولات التشويش، باعتماد أساليب التغطية المباشرة أسوة بالتلفزيون، والإفادة من تقنية المؤثرات الصوتية في الإخراج وبفضل استخدام الحاسبات الالكترونية في تهيئة البرامج الحديثة والمتجددة لتوفير خيارات صوتية عديدة لتقنين الجهد المبذول والوقت المخصص.
وان التطورات التقنية في البث الإذاعي في ما يخص تجهيز الاستوديوهات الحديثة بالأجهزة الدقيقة التي تأخذ بعين الاعتبار التوازن الصوتي والمعالجات الصوتية باستخدام أنواع متطورة من الميكروفونات، في إطار المنافسة فيما بين وسائل الاتصال الجماهيري.
· تقانة التلفزيون: أسهمت التقنية التلفزيونية في التقاط البث الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية باستخدام الصحون اللاقطة في أنحاء العالم، في ترسيخ حالة التقارب الإنساني والحضاري بين الشعوب من خلال البث التلفازي الفضائي المباشر، وبلورة مفهوم (العولمة) بأساليبها الاتصالية أو السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية.
وان الأدوار المختلفة التي يضطلع بها التلفزيون باعتماد البث الفضائي المباشر على مستوى التغطية الإخبارية لأحداث العالم، على مدار الساعة بالصورة والصوت والمشاركة الجماهيرية تطوراً مهماً، يتدخل في تشكيل المواقف والآراء والقرارات والتصورات بشأن الكثير من المستجدات الدولية والإقليمية والمحلية.
فالتلفزيون لم يعد وسيلة اتصال تلاحق الحدث بهدف التغطية الصحفية، وإنما تسهم في تشكيل أبعاد هذا الحدث في مخيّلة الجمهور سواء من خلال المعلومات التي تقدمها أو تركز عليها وحتى تلك التي تهمل.
ومع أن التلفزيون ما زال يمارس وظائفه التقليدية كالتثقيف والترفيه والإعلام بمعنى الإخبار، فأن تسخيره بقصد الترويج الإعلامي، عبر التغطيات الإخبارية المباشرة والفورية للأحداث الساخنة في العالم، بغية تقديم صورة مسيّسة بهذا الشكل أو ذاك حول تلك الأحداث، وبهذا أصبحت الأقمار الاصطناعية هي الأداة التقنية الأكثر استعمالاً في وسائل الاتصال الجماهيرية، والتلفزيون في مقدمتها إذ يعتمد في إرسال بثه عبرها الى معظم أنحاء العالم.
القيَّم الإخبارية
تعرف القيم الإخبارية بأنها مجموعة من المعايير التي يعتمدها الصحفيون في اختيارهم الأخبار، وهي ليست فردية تنسب الى صحفي دون سواه، بل أنها مجموعة قيم متعارف عليها والتي تمثل مجموعة من الأفكار والمعتقدات وطرائق السلوك.
أن مجموع هذه القيم أو المعايير التي تعتمد في إصدار حكم قد تصل الى مستوى نظام قيمي ينظر إليه نظرة تعميمية، أي تمثل معايير عامة لدى المجتمع أو المجموعة ويعني بها المحررون وكتّاب الأخبار.
ويوضح الباحث من خلال تجربته في المجال الصحفي أن القيم الاخبارية في العمل الإعلامي ليست عمومية بل أنها نسبية لدى الإعلاميين ومتفاوتة أحيانا، وهذا ما عززته تجربة وسائل الإعلام في العراق، فترى القيم الاخبارية متباينة في ما بينها، فترى أن ما تتبناه وسيلة إعلام سواء أكانت صحيفة أم إذاعة أم تلفزيون من قيم إخبارية، تختلف عن القيم الاخبارية التي تتبناها وسيلة أخرى تبعاً لفلسفة وسيلة الإعلام وأهدافها.
وتوصف القيم الإخبارية بأنها المبادئ التي تكوّن لدى الإعلاميين الحس الانتقائي للأخبار، وهي ليست قواعد مكتوبة أو مقننة يسترشد بها محرر الأخبار في انتقاء مادته، وهذا ما يؤطر ما ذهبنا إليه في تعريف القيم الإخبارية بأنها ليست ثابتة، بل أن الصحفي يتعلمها ويهضمها من خلال ممارسة المهنة.
فالمبادئ التي يسير وفقها النظام الإخباري السائد، هي التي يمارس بموجبها المحترفون في وسائل الاتصال الجماهيري أحكامهم التقويمية وتفضيلاتهم لشيء على شيء، مما يوجه عملية جمع الأخبار وانتقائها وتقديمها ونشرها.
ويقصد بالأساليب المهنية التي تدخل في اختيار وتشكيل الأخبار لتقديمها عبر وسائل الاتصال الجماهيري، وهي ليست بالضرورة وليدة خيال الإعلاميين أو أساليبهم الفنية في التناول لموضوع أو قضية ما، إذ تمثل نتاج تفاعل عوامل عدة تسهم بشكل أو بأخر في بناء القصة الإخبارية.
ولابد من توضيح العناصر الأساسية التي تدخل في تشكيل بنية الخبر وتتكامل داخل هيكله العام بشكل متجانس، يعطينا هذا الجنس الصحفي المسمى خبراً، والذي يتكون من استهلال أو مدخل يليه متن أو صلب الخبر ثم خاتمة، فضلا عن الإجابة عن الأسئلة الستة الأساسية المعروفة.
ويسهم في تشكيل القيم الإخبارية عوامل عدة تكمن في السياسة الإعلامية، وطبيعة التقاليد المهنية والذاتية التي يحرص على استحضارها القائم بالعملية الاتصالية، وطبيعة الأفكار الاجتماعية، ومدى توافر عناصر القصة الإخبارية، والجمهور المستقبل لوسائل الاتصال، ومدى الإفادة من المزايا التقنية التي تتمتع بها الوسيلة الاتصالية.
في حين تؤدي القيم الإخبارية وظائف تتمثل في انتقاء الأخبار وتحديد صلاحية النشر وأولوياته، ومستوى التغطية الإخبارية، وتفرض نوع الوسيلة الاتصالية أحيانا. وبذلك يمكن القول أن القيم الإخبارية تتطور بتطور تقانات وسائل الاتصال.
القيم الإخبارية في العالمين المتقدموالثالث (مقاربة)
تتباين القيم الإخبارية بين العالمين المتقدم والثالث، بسبب التفاوت في إنتاج المعلومات وهيمنة وسائل الاتصال الجماهيري في الدول المتقدمة على مصادر المعلومات، الأمر الذي أدى الى توسيع الفجوة الاتصالية بينهما وأصبحت تعرف بـ(اختلال التدفق المعلوماتي).
وتكرس ذلك في إطار التطورات التقنية السريعة التي شهدها مجال الاتصالات وكذلك اختلاف السياسة العامة، فدول العالم المتقدم تؤمن بالرأسمالية فلسفة سياسية واقتصادية، أما دول العالم الثالث فتسعى إلى تنمية مواردها البشرية والاقتصادية والسياسية. وهذا ما ينعكس على طبيعة القيم الإخبارية المتعارف عليها في العمل الإعلامي.
أن وسائل الاتصال الجماهيري في الدول المتقدمة تعامل على أساس كونها مشاريع استثمارية، تمول ذاتياً وتحقق أرباحاً نظراً لما تتمتع به مجتمعاتها من نزوع نحو الاستقلالية في ظل إيقاع الحياة المتسارع فيها.
أما في العالم الثالث فأن إشكالية الهيمنة الغربية والتطورات التكنولوجية في مجال الاتصالات، واختلال التدفق المعلوماتي ساهمت في ظهور المشكلة الاتصالية، نتيجة لسيطرة الحكومة على معظم وسائل الاتصال الجماهيري، وتأطيرها لتعكس الصورة المشرقة لفعالياتها تجاه الجمهور بغية المحافظة على الاستقرار العام.
فنرى العديد من حكومات تلك الدول توفر الدعم المالي للمؤسسات الإعلامية، ولا تنتظر منها تحقيق أرباحاً أو تمول ذاتياً، وبالتالي فأن وسائل الاتصال الجماهيري فيها تستحضر هذه الاعتبارات عند قيامها بأجراء التغطيات الإخبارية.
لقد أدى ازدياد حدة التنافس بين وكالات الأنباء والمحطات الإذاعية والتلفزيونية في العالم المتقدم والتطور التكنولوجي لوسائل الاتصال، فضلا عن توافر بعض التشريعات إلى توافر الحرية النسبية لعمل تلك الوسائل في الحصول على المعلومة ومتابعتها أو بثها ونشرها.
وفي الوقت الذي تركز القيم الإخبارية في الدول المتقدمة على الفورية، الأهمية، المفاجأة، القرب المكاني، الإثارة، الاهتمام الإنساني، الشهرة، الضخامة، الصراع، الجنس، السلبية، الإمتاع، الترفيه، الاستمرارية، الإلهام، التأثير الشخصي.
تركز القيم الإخبارية في دول العالم الثالث على ما يحمله الخبر من مضامين تنموية في مقدمة معايير اختيار وأهمية نشر الأخبار، وكذلك المسؤولية الاجتماعية واستحضار الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المجتمع لدى القائم بالاتصال عند إعداد رسالته الاتصالية، لتعميق التكامل والشعور الوطني لأبناء المجتمع وخاصة في الدول المستقلة حديثاً. وذلك للحد من الهواجس الأمنية التي تراودها أحيانا، وتثقيف الجمهور بالأمور المتعلقة بالرعاية الصحية والاجتماعية والثقافية التي تهم حياتهم اليومية، أي مدى ما تحمله في مضامينها من منافع شخصية تعود على الجمهور، والإمكانية التقنية لمواجهة النقص الحاصل في التقانات الاتصالية المتطورة، الذي يسهم في اعتماد الدول النامية على المنتجات الإعلامية في الدول المتقدمة.
وبالرغم من التباين الحاصل في القيم الإخبارية السائدة في العالمين المتقدم والثالث، فأن قيم الحداثة والاهتمام الإنساني والقرب المكاني، نجدها صانعة للإخبار وفق المقومات الإعلامية المهنية لبناء الخبر.
بينما تركز تلك القيم في العالم الثالث على التوجه التنموي وأهدافه، فهي إذن قيم وظيفية لتحقيق أغراض التنمية وفقاً لمحددات سياسية واقتصادية واجتماعية، بغض النظر عن مقومات المهنية لاختيار الأخبار، ومراعاة توافر القيم الإخبارية.
خلاصة
يتضح مما تقدم أن القيم الإخبارية ليست أزلية بل أن التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تسهم في تشكيلها، وعلى سبيل المثال إذا كان الخبر في الدول الغربية يمثل تقرير موضوعي عن حدث ما.
وفي العالم الثالث يمثل الخبر بمضمونه ومصدره وقيمته، وهذا بدوره يتطلب تبني سياسة إعلامية دولية متوازنة لمعالجة الاختلال في التدفق المعلوماتي بين العالمين، بهدف فرض الموضوعية ومعالجة الهيمنة من جانب واحد، وحرية الحصول على المعلومات ونشرها وصولاً إلى إرساء تقاليد إعلامية مواكبة لتلك التحولات ونابعة من تراثها الثقافي والاجتماعي والسياسي.
فالقيم الإخبارية متطورة بتطور تقانات وسائل الاتصال، التي تسهم في بلورة وترسيخ نظرة جديدة لحركة المجتمع الدولي، وما ستشهده معظم دول العالم من تحولات مهمة في مجال التكنولوجيا المعاصرة.
****************************************
المصادر
- د. عبدالستار جواد، صناعة الأخبار (بغداد: 2000).
- الاتحاد العام للصحفيين العرب، مستقبل الصحافة العربية في ظل ثورة المعلومات والتكنولوجيا (عمان: 2000).
- د. محمد منير حجاب، الإعلام والتنمية الشاملة (القاهرة: 2000).
- د. مجد هاشم الهاشمي، الإعلام الكوني وتكنولوجيا المستقبل (عمان: 2001).
- د. جان جبران كرم، الإعلام العربي إلى القرن الواحد والعشرين (بيروت: 1999).