زهير الجزائري
لننظر إلى هذه الصورة! إنها الرسالة الإعلامية التقليدية لداعش. مع بشاعتها تريد داعش أن توصل من خلالها المفردات التالية:
١- إن العقاب في هذه الصورة لم يستهدف فردا بالتحديد، قام بفعل محدد يستدعي العقاب، إنما هو عقاب لجماعة إثنية دينية أو قبلية. بعض هذه الجماعة قاوم داعش أو حاول مقاومتها، بعضهم حاول أو كان مزمعا مقاومتها، والبعض الآخر غير قابل بما تفعله داعش أو ممتعض ولكن بصمت.
العقاب استهدف الجماعة، بما في ذلك أفرادها الذين لم يمارسوا فعل المقاومة، لأن العقاب يستهدف الجماعة ككل (إثنية كانت أو قبلية أو عسكرية).
في الجماعة لا يوجد فقط عدو فعلي، إنما أيضا عدو محتمل يسميه القاموس البعثي (احتياطات الثورة المضادة)، ينبغي للعقاب أن يستهدفه، قتلا أو إبادة، قبل أن يتحول التذمر الصامت إلى غضب ثم فعل.
٢- العقاب في الصورة لم ينفذ في أقبية أو قاعات مُغلقة بعيدة عن أعين الناس، إنما ينفذ أو يعرض في الشارع أمام أعين الناس. أحيانا يجمع الناس قسرا من مدارسهم ومحلات عملهم لمشاهدة العقاب. لا يستهدف هذا الْعِقَاب الكيدي المعلن فقط الشخص الذي يمس العقاب جسده، إنما هو يستهدف المشاهدين، الذين يرون العنف أمامهم، يرونه بحواسهم المباشرة، بدلاً من أن يدركوه ضمنيا من خلال البيانات اللاحقة وقد نفذ بعيدا عنهم.
٣- ينبغي أن لا نركن، ونحن نتحسس البشاعة بجلودنا، للتصور السايكولوجي البحت الذي يرى في بشاعة التنفيذ مرضا سايكوباثيا. العنف المعلَن هنا هو ممارسة سلطة، من أولوياتها كسب ولاء السكان.
وتفترض داعش أن هناك في المجال الجغرافي لدولتها أناس:
- غير راضين ومتذمرين
- غير راضين وصامتين
- راضخون بسبب الخوف وليس الإيمان
- متعاطفون غير فاعلين
- مجاهدون مندمجون وفاعلون
لا تقبل داعش بوجود المختلف في دولتها. فمواطنها مندمج أو راضخ. رسالة الرعب هذه موجهة للأطراف الأربعة الأوائل: مثل هذا قد يحدث لكم! هنا يتحول العنف بحد ذاته إلى إعلام والإعلام إلى عنف. العنف الأدواتي موجه للذين يمسهم العنف مباشرة، والعنف المعنوي موجه للجمهور الذي يشاهد.
وهناك نوعان من المشاهدة:
- المشاهدة المباشرة في المكان الذي تسيطر عليه داعش في الحال ..هذا الجمهور الموجود في الشارع ، يتفرج ويصور ويتناقل الواقعة شفهيا أو عبر فيس بوك. تستهدف داعش جمهور الطبقات الدنيا، الجمهور العاطل والمنفصل عن البيت والعمل، الجمهور المهمش وبالتحديد المراهقين والشباب الأشد ميلاً للتطرف، والمشحونين بالرغبة في ممارسة سلطة ما، تمزج بين اللعب والتطبيق.
ولكن الإعلام الاجتماعي (فيس بوك وتويتر) وفر لـ"داعش" جمهورا آخر لم يحضر لحظة التنفيذ، هو جمهور مضمر ومحتمل يفترض أن يستوعب الدرس: نحن أقسى مما تتصورون!
٤- لو استمعتم لبعض الضحايا قبل تنفيذ الحكم لسمعتم متهما يعترف قبل الموت بخطيئة كونه في قوة أخرى تعتبرها داعش عدوا.. هذا الآخر إما دينيا أو طائفيا أو قوميا.
الشخص الآخر طلب التوبة واعتذر، وأحيانا حد البكاء. مع ذلك نفذ الحكم به لأن داعش لا تقبل التوبة. فالتصور الديني الذي تستند عليه داعش كدولة طوارئ، هُوَ إنه من غير الممكن تحقيق العدل هنا في الأرض، لأن هناك في الآخرة عدل آخر سيفرق بين المذنب والبريء.
وقد حسب مواطن موصلي الفترة الزمنية بين إلقاء القبض على مجموعة عسكريين من قبل داعش وبين تنفيذ العقاب بهم وعرضهم في الشارع فوجد أنها لا تتجاوز الساعتين ونصف الساعة.
نحن لم نر التحقيق مع المجموعة ولا مع أفراد. فالحكم صدر مسبقا على جماعات دينية أو إثنية ( شيعة، أكراد، مسيحيين، يزيديين)، ويحتاج إلى متهمين. لم نر التحقيق، إنما رأينا دمجا نموذجيا بين المحقق والقاضي والجلاد، ودمجا آخر بين التحقيق والحكم والتنفيذ في وقت واحد دون فاصل زمني.
٥- سأترك للفقهاء والمتفقهين نفي أو تأكيد الأحاديث والآيات والوقائع التي تستند عليها داعش أو إحالتها لظرفها وزمانها. لكن داعش قلبت المعادلة والتراتب بين المفتي والمنفذ، وهو في الحقيقة انقلاب علَى المنظمة الأم، القاعدة. فقد كان الفعل التنفيذي يبدأ بعد صدور فتوى من مرجع أعلى هو الأب الروحي للمنظمة (بن لأدن أو الظواهري).
عند داعش، وقد مهد لها الزرقاوي، انقلبت العلاقة. فقد غاب الزعماء الروحيون، وصار مفتون محليون يعطون الشرعية العقائدية لفعل العنف. ولدي تسجيل لمفتي سوداني اللهجة يستند على حديث يدعي أنه للنبي محمد يقول فيه (نصيب المشركين فنغزوهم، ونصيب نسائهم وذراريهم، إنهم منهم). الفتوى هنا جاءت تالية للفعل وتؤيده بعد حدوثه، لتدعم العنف باعتباره تبريرا لسلطة مورست.
٦- ثانية أعيد استبعاد التصور السايكولوجي الذي يرى هذا العنف هو نتاج مرض سايكوباثي. أستبعده ولا أنفيه، فالأمر كما نرى في الصورة الثانية، لا ينحصر في ممارسة أفراد محددين، مهمتهم تنفيذ عمليات الإعدام و قطع الرؤوس، إنما هو ممارسة جماعية. الكل ينبغي أن يساهم في طقس الموت هذا. مهنة القتل تحول الإنسان من خائف إلى مخيف. وجود الجماعة والخوف من الاتهام بالجبن أو الميوعة يخرج الخائف من تردده إلى أن يفعلها للمرة الأولى، ثم الثانية بتردد أقل وارتباك أقل... بالتدريج واستمرار الممارسة يموت الإنسان فيه وينمو الوحش الذي يقتل بدون تردد.
٧- أمر مماثل سيحصل للمشاهدين.. سيفزعون من المشاهدة الأولى، وربما يغمى عليهم من هول المفاجأة وقد وضعوا أنفسهم في موقع القتيل، لكنهم سيتصلبون في المشاهدة الثّانية وقد تستعاد المشاهد في كوابيس النوم، لكن يوما بعد يوم يفقد المشهد صدمته ويصبح روتينا، وفي هَذَا التعود، غير ما يخلفه من تراكمات نفسية، ما يفقد الرسالة الإعلامية مفعولها (قد يحدث هذا لكم). فمن خلال التعود يردد المشاهد (لقد حدث هذا منذ زمن)!
بنشر بالتعاون مع "بيت الإعلام العراقي"