لسنا أمام قضية أو حالة لنغض الطرف عنها أو نتجاوزها فقد تكررت لتصبح ظاهرة تهدد حرية القول والرأي وتشكل تهديدا للصحافة العراقية عاملين ومؤسسات حيث ضاقت صدور الرسميين عن تقبل الرأي الآخر فصاروا لا يترددون في قهر وكبت ذلك الرأي وتخويف أصحابه مرة تلميحا وأخرى - وهو ما درجوا عليه منذ مدة- استنادا إلى قوانين صيغت في فترات مظلمة من تاريخ العراق الحديث، حيث اختزلت الدولة وطنا ومواطنين وثروات وموارد في حزب وبعدها في عشيرة ثم عائلة حتى آلت في النهاية إلى فرد جمع في قبضته كل الصلاحيات وزاد عليها في أواخر أعوامه صلاحيات الآلهة.
روائح الفساد المالي والإداري والسياسي فاحت حتى أزكمت الأنوف وحين أرادت الصحافة تأدية رسالتها في الكشف عن ذلك ووضعه أمام الناس وأمام الشرفاء من المسؤولين وأمام أعضاء البرلمان ولجانه المتخصصة، اخذ البعض يمارس لعبة اقل ما توصف به أنها لعبة لا تليق بمسؤول جاء إلى المسؤولية بأصوات الناخبين، مهما كانت درجة وعيهم ومهما كان حجم التداخل والتشويش الذي رافق تلك الانتخابات. ففي الأقل كان، عليه احترام مشاعر من انتخبوه وأوصلوه الى موقع المسؤولية فلا يلجأ إلى مثل هذه الأساليب أو يخجل من أن يكشف عن ذهنية تتقاطع كليا وابسط الأسس التي تقوم عليها العملية السياسية الديموقراطية.
يبدو أن كثيرا من القوانين التي سُنت والقرارات التي أُقرت في ظل أنظمة سابقة كانت توصف بأنها أنظمة ديكتاتورية، أُبقي عليها حتى الآن من اجل أن تُستل متى ما وجد احد المسؤولين حاجة إلى إشهارها لإسكات أي صوت أو معاقبة أي منتقد.
لا يمكن أن يقوم نظام ديموقراطي دون صحافة حرة متحررة من الخوف ودون أن تكون للكلمة قدسيتها وللرأي مهابته ودون أن يكون ذلك مبدءا ينبع عن يقين وإيمان لا مجرد شعارات ترفع في الانتخابات وتنكس بعد ذلك حيث تنتهي مهرجانات التنافس على المواقع والمناصب.
الغريب في الأمر أن جل من هم اليوم يمارسون ذلك العمل العدائي للصحافة كانوا في يوم من الأيام ضحايا الديكتاتوريات العراقية التي كممت الأفواه وقيدت الحريات وأرغمتهم على إما الانطواء وإيثار السلامة أو الفرار إلى بلدان أخرى بعيدين عن أوطانهم وأهليهم.
لقد ضاقوا ذرعا بالصحافة فما كان منهم إلا اللجوء لائذين بقوانين النظام السابق الذي نخشى أن يعود مرة أخرى بصيغ وأشكال مختلفة ولكن بمضمون ومحتوى واحد وعلى أيدي من ساهموا بإسقاطه وإزالته.
وبعد.. نأمل أن يراجع المسؤولون أنفسهم وان يثوبوا إلى الحقيقة وإلا فسنكون قد استبدلنا نظاما سيئا بآخر أسوء منه إذ أننا في الأول كنا أمام شكل واضح من أشكال الاستبداد لكننا في الثاني أمام شكل آخر مستتر ومتخف بالديموقراطية.
وكلمة أخيرة نوجهها إلى نقابة الصحفيين العراقيين والتي نأمل أن يكون موقفها واضحا وبحجم مسؤولياتها باعتبارها نقابة عريقة في بلد عريق، بدون التماسات كما حصل في قضية الزميلتين (المشرق) و(البرلمان) من جهة ووزير التجارة من جهة ثانية ذلك الموقف الضعيف الذي وقفته النقابة والذي اعتقد انه وراء هذا التمادي من قبل المسؤولين في السير حثيثا والإصرار على ذات النهج في تحجيم الصحافة، لتقف الموقف الذي ينبغي أن تقفه منظمة مهنية ذات مسؤوليات خطيرة في عالم اليوم تدافع عن المنتمين إليها وعن قدسية الكلمة.