يبدو ان معطيات الواقع الإعلامي العراقي باتت مفتوحة على المزيد من الأسئلة العاصفة، ليس لان طبيعة الحياة العراقية وتجاذباتها هي الباعث على إثارة مثل هذه الأسئلة، بقدر ما ان معطيات الواقع بكل تعقيداتها تتكشف اليوم على مجموعة من الاستقطابات التي تكشف عن أزمة الاستقطابات السياسية وازمة الحوار السياسي،
وربما كثرة الالتباسات التي ارتبطت بـ (صناعة)المشهد الإعلامي وتعدد الولاءات والمرجعيات التي يدعي كل منها(الوصل بليلى) خاصة مع صدور وثائق ذات نفس امني تحاول ان تربط بعض سياقات العمل الإعلامي ومنها عمل الفضائيات بجهات أمنية، رغم ان القانون 65 والمعمول به حاليا دستوريا يضع مرجعيات الإجازة الإعلامية بهيئة الإعلام والاتصالات، ناهيك عن قيام البعض بالتمترس حول نوع من الاستعراضية التي تؤدي إلى مزيد من الصراعات وأحيانا المزيد من الضحايا وربما المزيد من البطولات الفارغة..
أزمة السياسي وبشكل خاص أزمة(البرلماني/السياسي) تنتج بالضرورة أزمات ثانوية هنا وهناك، لان هذه الأزمات تعكس هشاشة الثقة بين القوى السياسية، وسوء تدبرها للتعاطي مع المحنة الوطنية التي ينبغي ان يلتقي عندها الجميع بعيدا عن غوايات الاجندات والصفقات السرية والمشبوهة وعقدة العودة الى الماضي، وطبعا هذه الازمات المصطنعة على الجبهة السياسية البرلمانية تصنع لها طبخات إعلامية، وللأسف تجذب لها بعض الاعلاميين الذين يتحولون الى ناقلي شتائم وناقلي هموم وصانعي طرق مشوشة لاتؤدي الى الحقيقة أبدا..
هذه الأزمات الحقيقية والمفتعلة أحيانا تجد في هذه الفوضى(الاعلاماتية) الكثير من شفراتها، وربما يسعى البعض من صنّاعها إلى خلق مزاوجة غرائبية مع نمط من السياسيين الذين يتوهمون ان صناعة المستقبل لا تتم ألا عبر هذه الطبخات الإعلامية، وعبر الفبركات التي تتيح لأصحاب الطوق الإعلامي المزيد من التشفي بمحنة العراقيين ودمائهم المباحة للإرهاب والإجرام.. التفجرات التي تحدث على المستوى الإعلامي تجد صداها في أمكنة مجاورة وأحيانا أمكنة بعيدة، خاصة حينما تكون صناعة الخبر وتداول المعلومة بصناعة فكرة او رأي عام عند الجمهور العراقي في المهجر او الجمهور العربي او الجمهور الأجنبي، ناهيك عن أثرها في استقراء حيثيات الحدث في المكان السياسي عبر ما تثبته الوثائق التي يبثها الإعلام العراقي صدقا او زورا. كما ان هناك العديد من الصحفيين يعمد إلى تفخيم مفاهيم الحرية والديمقراطية وموضوعات الحقوق والعلاقات المأزومة بين السياسي والثقافي او السياسي والاجتماعي دون مراعاة التركة الثقيلة لأزماتنا العتيقة بكل فوبياتها ورهابها، والتي مازالت(تعشش) في عقول الكثيرين، ناهيك عن رسوخها النفسي والسلوكي في سياقات عمل الكثير من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، حتى يبدو وكأن الحديث ضد الحكومة او الحديث غير الموضوعي عن الحرية، وضرورة ان يكون الصحفي بطلا وضحية هو الوجبة الدسمة التي تسوقها بعض الجهات. أليس الواقع العراقي المحكوم بالديكتاتورية السياسية والإعلامية هو عراقنا الذي ينبغي ان نعمل جميعا لإعادته للحياة، وضخه بالهواء النظيف لكي يكون جزءا من العالم المتحضر المتمدن الذي تمثل الحرية الحقيقية وليست حرية البطولات شرطه الأساسي؟
لا يمكن الحديث عن دور ريادي وفاعل للإعلام او كما يسميه البعض بالسلطة الرابعة دون ان تتكامل أدوات هذا الدور مع عمل المؤسسات الأخرى، اذ ان التكامل هو شرط أساسي وضروري لإعطاء هذه السلطة حضورها، ومنح برامجها مشروعية المراقبة وتفعيل كل الجهود وتأسيس سياقات عملها على استبيانات ومعلومات دون الرمي في الظلام، وبعيدا عن الاستعراض الذي يضر الحرية أكثر مما يغنيها. كما ان الحديث عن الإعلام يرتبط بشكل او بآخر بمشروع الدولة العراقية الجديدة، الدولة التي ينبغي ان تصنع متنا واسعا للحياة المدنية بكل تشكلاتها الاجتماعية والثقافية، مثلما هي الدولة التي تؤطر عمل مؤسساتها الإعلامية بسياق من الآليات والقوانين التي تحمي حرية الأعلام وتتيح هامشا فاعلا للحصول على المعلومات وتكريس قيمة الهوية الإعلامية في مجتمع يرث الكثير من المركزيات الضاغطة والقامعة.
فاعلية التكامل بين العمل الإعلامي والمؤسسات الأخرى ينبغي ان تكون جزءا من فاعلية النظام الاجتماعي وجزءا من الحقوق الوطنية، فضلا عن السعي إلى ان تنطلق موجهاتها ومحركاتها من برامج العمل التي تقوم على وعي المسؤوليات وعلى إدراك طبائع الأزمات التي تحفّ بالواقع العراقي وليس تجاهلها او التعالي عليها، فضلا عن أهمية التعالي على طبيعة الاصطفافات الضيقة التي مازالت تتداول الأزمة بهوس غريب وتؤجج حرائقها، ناهيك عن إدراك ان الحرية ليست بضاعة يمكن شراؤها بسهولة دونما معاينة حقيقية ودون معاناة ودون رؤى تتلمس ما حولها بحيادية ومهنية وموضوعية.
ان التضييق على حرية الإعلام، والتضييق على حصول الصحفي على المعلومات أمور لا يمكن السكوت عنها، لكن درس الحرية الذي اقترن بنضالات شعبية وثقافية ينبغي ان يضعنا في صلب هذه المسؤوليات، لأنه لم يأت من فراغ بقدر ما انه يرتبط بتاريخنا الوطني المضمخ بالبطولات الأخلاقية، والقيم التي ينبغي ان تعزز الثقة بالنفس والآخرين، وأجد ان ضرورات المرحلة بكل تداعياتها الصاخبة وتعقيداتها تقتضي منا إدراك خطورة المسؤولية التي تبغي ان يقوم بها الإعلامي، خاصة هذا الإعلامي الذي يصنع رأيا عاما، وله دور في حراك الجماعات السياسية والدينية والقومية وحتى الطائفية! وان يدرك خطورة ما يصنعه وما يتداوله وما يثيره، وان يسعى بجدية إلى تغليب الموضوعي على الخاص، وتعميق ما هو مهني وما هو إنساني في آن معا، وان لا ينجر إلى الجبهات المتقابلة التي باتت(مفضوحة) هذه الأيام، وان يعمد في صناعته الإعلامية إلى ربط الأمور والاستنتاجات بالانفعالات التي كثيراًَ ما تصنع خطابا لا يمكن الاطمئنان إليه، ناهيك عن الحاجة الى إيجاد علاقة ايجابية مع السلطات التفيذية بعيدا عن لغة الإسقاط والتهويل وسوء الظن، مثلما هو العمل على مطالبة الجهات التشريعية بتشريع القوانين التي تخص الإعلام والإعلاميين، والقوانين التي تخص مؤسساتهم المستقلة وغير المستقلة، لأننا بحاجة إلى الوضوح القانوني وليس الى العشوائيات التي تصنع أوهاما وصراعات تزيد حرائقنا اليومية اشتعالا، وتتركنا عند جبهات مفتوحة على الضغينة دائما، وعند أسئلة الشك، وعند مراثي أحلامنا المجهضة.