لم يتوقع آخر مدير لشبكة إذاعة وتلفزيون البصرة الذي يضم أكبر ستديوهات تلفزيونية وإذاعية في العراق، بأن يأتي اليوم الذي تشهد فيه بلاده هروباً جماعياً للإعلاميين العراقيين بسبب الاستهداف الذي يشاهدونه، وعمليات القتل التي طالت الكثير من أصدقائهم الإعلاميين.
ومن منزله الذي انتقل إليه في العاصمة السعودية الرياض هرباً من أعمال العنف في العراق ـ بحسب قوله ـ أكد الإعلامي العراقي عبد الإله بن عبد الكريم الرديني أنه انتقل إلى السعودية بعد أن «بات العيش والعمل الإعلامي في العراق صعباً جداً».
عبد الإله الرديني الذي عمل في الإعلام العراقي منذ السبعينات الميلادية، يلامس الآن الستين من عمره، عاصر العديد من الشخصيات العراقية البارزة في النظام العراقي السابق وغيرها تحدث عن تجربته وارائه في المشهد الاعلامي العراقي، وفيما يلي نص الحوار:
كيف كانت بداياتك مع الإعلام في العراق؟ ـ التحقت بوزارة الإعلام العراقية في عام 1970، وفي عام 1972 تم تعييني مديراً فنياً لشبكة راديو وتلفزيون البصرة، ولم ألبث فترة بسيطة حتى تم اعتقال مدير المحطة بدعوى انتمائه إلى جماعة حزبية سياسية وسجنه بعد إبعاده عن منصبه، ليتم تنصيبي أنا مديراً للتلفزيون، وهو منصب بقيت فيه عقدا من الزمان.
كيف تقرأ وضع الإعلام العراقي الآن؟
ـ بدأت تتصاعد أعداد القنوات، وبدأت محطات عراقية جديدة تبث بشكل متواصل، وبحسب تقديري فقد وصل عدد المحطات العراقية التي تبث من هناك إلى حد اليوم 40 قناة عراقية الهوية والكوادر، تعمل ضمن سياسة يغلب على كثير منها الترفيه.
وكيف تقارن الوضع الحالي بالسابق؟ ـ في السابق كان الإعلام العراقي محددا وموجها ولا يمكن لكل أحد أن يخرج أو ينتج أو يعمل بينما في الوقت الراهن أعتبر الوضع الإعلامي (ظهور قنوات جديدة) أفضل بكثير من السابق فكل الفضائيات الآن تعمل بلا رسوم مقابل موافقة وتعهدات إعلامية وأمنية بسيطة، على المكان بعد عدد من الإجراءات القانونية كتسجيل الاسم والتأكد من جاهزية البث وغيره.
وهل تتعرض القنوات التي تبث حالياً إلى نوع من الضغوطات أو الإلزام في جانب محدد؟
ليس في جميع الأحوال، فهناك رقابة معينة على بعض الأوصاف والظروف التي يتم إطلاقها في أخبار تلك القنوات، وتابعت أخيراً إيقاف مكتب قناة «العربية»، لكن مع كل ذلك، فلا يوجد حالياً قيود كما كان في عهد النظام السابق، لكن هناك ملاحظات على بعض الأوصاف التي لا يروق للحكومة سماعها، أضف إلى ذلك أن القنوات لا يفرض عليها بث شيء معين.
منذ متى وأنت هنا في الرياض؟ ـ منذ 6 أشهر، حيث عدت من آخر مرة أزور فيها العراق ومسقط رأسي (البصرة) لأفجع بحجم الأضرار وأصدم بما لحق بالعديد من العراقيين هناك، وكان في مقدمتهم زملاء وأصدقاء لي في الوسط الإعلامي طالتهم أعمال الاستهداف والعنف هناك.
هل تواصل ممارستك لأي عمل إعلامي حالياً؟
للأسف إنني متوقف، ولا أمارس أي عمل، مع وجود النية في البحث عن مكان أواصل فيه خبرتي التي اكتسبتها طيلة العقود الماضية، غير أنّي ما أزال أتجرع مرارة ما يتعرض له أقاربي في العراق وأصدقائي في الوسط الثقافي والإعلامي هناك.
كيف كانت امكانات القناة عندما كنت مديراً لتلفزيون البصرة؟ ـ حصل أن كانت أكبر ستديوهات تشيّد في العراق في محافظة البصرة، ستديوهات تضاهي في إمكاناتها وضخامتها، الاستوديوهات الكائنة في العاصمة بغداد، وفيما يخص ما حصل في صميم العمل فقد كنا نعمل ضمن سياسة محددة تحكمها رقابة وزارة الإعلام العراقية التي كانت تكتسب إشرافاً قوياً من عدي صدام حسين، وكان كل ما يبث يمر عبر رقابة صارمة، حيث كانت ترسل المواد إلى بغداد بالطائرة لتتم إجازتها ومن ثم تعاد للبث في حال إجازتها.
إذن كان مقص الرقيب يطال عدداً من مضامين المواد التي كنتم تنتجونها آنذاك؟
نعم، إضافة إلى حظر كل ما كان يمس النظام السابق آنذاك بأي معارضة أو نقد أو ملاحظة، إلى جانب حظر القُبل على الشاشة، وظهور النساء بملابس قصيرة جداً.
ما الذي كان ممنوعاً تماماً من البث أو نادراً على أقل الأحوال؟ ـ الأفلام الأجنبية.
كان هذا في فترة مَن؟ ـ في نفس الحقبة التي تحدثت عنها آنفاً عندما كان عدي صدام حسين يشرف على الإعلام العراقي بأكمله مع وجود وزير الإعلام ووكيل الوزارة.
وبم تميزت تلك المرحلة التي كان يشرف فيها على الإعلام نجل الرئيس العراقي السابق؟ ـ كان وقتها ابني «إيهاب» متحدثاً باسم عدي صدام حسين بعد أن قضى إيهاب فترة من الزمان يعمل في سرية التشريفات بالقصر الجمهوري، وكانت مرحلة لا تمر فيها منتجات الإعلام بسهولة إذ لا يمكن عرض أي مادة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة إلا بأمر من عدي صدام حسين. > وكم دامت تلك المرحلة؟ لم تدم طويلاً، وبدأت تحتضر مع أول ضربات بدأها الأميركان في العراق استهدفت محطة البصرة فتم إسقاط كل أجهزة الإرسال.
وأين كنت وقتها؟ ـ كنت في البصرة، وأجبرت من قبل الحكومة بشكل إلزامي للعودة كمدير للمحطة لإعادتها كما كانت عليه بعد ضربها، وإصلاح محطات الإرسال والأجهزة الأخرى.
وهل تمكنتم من إعادتها؟ ـ حاولنا أن نصلح أنا والفريق الذي كان معي، إلا أننا لم نتمكن بسبب حجم الدمار الكبير الذي لحق بكل أطراف المحطة وأجهزة الإرسال والاستقبال، إلى جانب أن عملية (الغوغاء) الشهيرة داهمتنا أثناء عملنا لإعادة المحطة لما كانت عليه من قبل.
وهل توقف العمل بعد ذلك؟ ـ لا، بل لجأنا إلى مجمع صغير مجاور نبث منه، حتى أخبرنا من قبل وزارة الإعلام العراقية أنه سيكون هناك بث موحد من بغداد وليس كل يبث لوحده، فقمنا نبث للخليج باسم إذاعة الخليج العربي من البصرة، إلى جانب إذاعة الجمهورية العراقية وإذاعة أخرى تحت مسمى «إذاعة الشباب» وكل ذلك كان يتم بإشراف من عدي صدام حسين.
وهل استمررتم في العمل بهذه الطريقة لفترة طويلة؟ ـ أبداً، لأن الحصار ازداد، وبدأت الإمكانات تقل، والخوف يدب إلى قلوب الكثيرين، إلى درجة أن زملاء وعدداً من الإعلاميين العراقيين أصبحوا يعمدون إلى عمليات بث من وسط (سيارة).
ومن كان يتنقل من الإعلاميين وقتها؟ ـ أتذكر أن وزير الإعلام العراقي السابق محمد الصحاف الذي كان مديراً للحسابات في وزارة الإعلام في السبعينات الميلادية، كان يتنقل في هذه الفترة (2003) مع مجموعة صغيرة يتحركون في جهات متعددة للخروج إعلامياً والإدلاء بآراء ومعلومات في بداية ضرب القوات الأميركية للعراق.
كيف خفت نجم تلك التحركات وعمليات البث المتواضعة؟
وصل الأمر إلى حالة بالغة الصعوبة، وقبل 4 ساعات من سقوط بغداد، تم ضرب وإعطاب كل المحطات الإذاعية والتلفزيونية وشبكات الإرسال.
وكيف عشتم كإعلاميين عراقيين بعد ذلك؟ ـ حالة مؤسفة، ومنذ ذلك اليوم (سقوط بغداد) حتى الآن أكثر الموظفين بالإعلام سابقاً، يقبعون في الوقت الراهن في منازلهم لا تصرف لهم رواتب ومقطوعون تماماً بحيث يعتبرون أنهم من بقايا النظام السابق.
وكيف تؤرخ للمرحلة الإعلامية الحالية في العراق؟
بعد سقوط بغداد دخل مباشرة عدد كبير من المحطات، وبدأت مرحلة إعلامية جديدة في العراق، حيث قام الكثير من القنوات الخارجية بتأسيس مكاتب لها في العاصمة العراقية وأماكن أخرى من العراق، وأبرز تلك القنوات العربية، الجزيرة وقطر وغيرهما، أي قرابة 6 أو 7 قنوات دخلت إلى هنا، ما عدا الكويت.
ولماذا لم يستفد الكثير من الإعلاميين العراقيين من مرحلة دخول تلك القنوات؟
ـ بعد فترة من سقوط بغداد، برزت أشكال متنوعة من أعمال العنف كان استهداف الإعلاميين العراقيين أبرزها، حيث ان كثيرا من الإعلاميين هناك خرجوا من العراق بعد مقتل وإصابة عدد من أصدقائهم وأقاربهم، منهم صحفيون وكتاب ومراسلون، وصدمت الناس بالمرحلة التي ما زالت مستمرة فالناس تخاف على أنفسها من الاستهداف والتصفية، وبدأ هروب جماعي للإعلاميين من العراق بسبب الخوف من القتل.
وهل خرجت أنت من العراق لهذا السبب؟ ـ نعم، وقد خرجت أنا وابنتي هبة وابني علي، لنعيش هنا مع ابنتي هنادي المتزوجة من مواطن سعودي، وتركت هناك في بغداد «إيهاب وأركان»، ولست أنا وحدي فكل يوم يهرب قرابة عشرة آلاف مواطن من العراق، من جحيم نار العنف، ونسبة كبيرة منهم إعلاميون.
إلى أين يذهب هؤلاء الاعلاميون الهاربون؟ ـ غالبيتهم إلى العاصمة الأردنية عمّان، ليتمكنوا من هناك، من ممارسة أعمالهم الإعلامية السابقة، وعدد منهم يذهب إلى سورية، والبقية تنتشر في المكان الذي تجد لها فيه عملا مجزيا ومناسبا ويتحقق فيه الأمن والأمان.