حدثني صديقي الصحفي الاميركي جيري كامير وهو مراسل لوكالة (Copley New Service) كيف أدت تحقيقاته الاستقصائية إلى كشف حالات فساد عالية المستوى أبرزها فضيحة رشاوى تتعلق بالنائب عن ولاية كاليفورنيا راندي ديوك كوننغهام، حيث كشفت تحقيقاته الصحفية عن تورط كوننغهام في منح عقود دفاع مقابل ملايين الدولارات وغيرها من الهدايا الثمينة. قدم النائب استقالته من منصبه بعد نشر القصة وأقر بالذنب وتم الحكم عليه بالسجن ثمانية أعوام. ونال الصحفي كامير اربعة جوائز مهمة، تقديراً لكشفه هذه القضية، ابرزها جائزة بولتيزر للصحافة. تخيل لو كان كامير في العراق ما الذي سيحدث له؟
نعم ففي العراق نعمل كصحفيين على ملاحقة قضايا مهمة في ممارسة لدورنا الحقيقي كسلطة رابعة رقابية، ونلاحق قضايا تنهك جسد الدولة ونحاول من خلال مصادرنا الصحفية والعمل الميداني تشخيص الاخفاقات وكشف حالات التلكؤ الاداري والمالي في مؤسسات عدة. لكن الامور لدينا تسير بطريقة مختلفة.
لقد نشرت شهر تموز (يوليو) الماضي قصة صحفية عن مشروع بناء المدينة الرياضية في البصرة التي تكلف نحو نصف مليار دولار، وقمت باستعراض تفاصيل تقرير هندسي، حصلت على نسخة منه من احد مصادري. التقرير أعده فريق هندسي وهو يتحدث عن "تجاوزات وهدر في مشروع المدينة الرياضية في البصرة، على مستوى تنفيذ التصاميم المعدة والمواد الانشائية المستخدمة، ربما تقود الى كارثة، في حال انجزت اعمال المشروع من دون مراجعة دقيقة".
التقرير نشرته صحيفة "العالم" العراقية ولم يحمل اسمي لأسباب عدة، ولكنني اليوم أعلن مسؤوليتي الكاملة عن نشره. وفي كل الاحوال ستبقى مصادر معلوماتي سرية، وستصمد أمام أي ضغوط.
التقرير الذي اعده مهندسون لصالح جهة رقابية، اتفقنا انا وزملائي في صحيفة "العالم" على ان ينشر بما حمل من معلومات مكتوبة بلغة علمية. وكنا في انتظار رد علمي هندسي من الجهات المسؤولة عن المشروع الرياضي وهو الاضخم في العراق، لخلق قنوات حوار مهمة معها، وبالتأكد من ان حق الرد مكفول. لكن الرد جاء من المحكمة المختصة بقضايا الاعلام وجرى ابلاغ الصحيفة بوجود دعوى قضائية مقامة ضدها من قبل وزارة الشباب والرياضة تطالب فيها ان تدفع الصحيفة تعويضا للوزارة مقداره مليار دينار عراقي (نحو مليون دولار) بسبب نشر التقرير.
لم يكن ممكنا تجاهل التقرير الهندسي وعدم نشر فحواه. لأن الامر يتعلق بمدرجات ملاعب عليها ان تتحمل شغف 65 الف متفرج، ولا بد من اثارة الموضوع لدفع المسؤولين الى التأكد على الاقل من صحة ما جاء فيه، او رده بطريقة علمية وطمأنة الرأي العام.
ان كشف النواقص مهمة كبيرة على عاتق الجميع، يجب ان تحظى بتعاون من قبل جميع مؤسسات الدولة. فنحن كصحفيين لن ننجح في كشف المشاكل بمفردنا، وسط هذه الضغوطات، بل نحتاج الى أن نكون جزءا من منظومة تشمل الصحافة وهيئة النزاهة ومجلس القضاء والادعاء العام ومجلس النواب. وكما أبلغني صديقي كامير "فعندما تعمل جميع هذه الجهات مع بعضها تظهر بيئة مثالية لمحاربة الفساد".
الصحافة العراقية بدأت تتطور وتلفت نظر الاعلام الغربي نفسه. الاسبوع الماضي شدني عنوان صحيفة نيويورك تايمز التي قال مراسلها ستيفن لي مايرز ان "هيئة النزاهة ووسائل الإعلام ينجحان في شجب الفساد" وذلك بعد اختفاء شحنة الحواسيب المخصصة للتلاميذ في بابل والتي وصلت ميناء ام قصر وتم حجزها بالحيل البيروقراطية أو بواسطة الرشوة ثم طرحت للبيع في المزاد. مصير الحواسيب كاد ينتهي الى مجرد اجراءات حكومية مألوفة، وليس فضيحة مقلقة. لكن الصحافة وهيئة النزاهة حالا دون ذلك. ان عنوان صحيفة نيويورك تايمز يكفى لرسم خارطة جديدة للعمل المشترك بين الصحافة وكل الجهات المعنية.
لن انسحب من هذه القضية وأعلن مرة اخرى مسؤوليتي الكاملة عن التقرير المنشور في صحيفة "العالم" وأنا مستعد للمثول امام القضاء، وله الحكم ان قضى بأن ادفع المليار دينار عراقي (لا اعلم من اين أتي بها)، او ان حكم بالتحقيق في القضية.
في النهاية نسيتُ ان اذكر ان الصحفي كامير نال جوائز أخرى لجهوده في كشف قضايا فساد منها جائزة العنوان الوطني للصحافة الاستقصائية، وجائزة لصحافة الأعمال والاقتصاد، وجائزة دون بول للصحافة الاستقصائية من نادي الصحافة في ولاية أريزونا. تُرى كم يبلغ الفرق في درجات الحرارة بين أريزونا والبصرة!؟